الخميس 15 ربيع الأول 1435

وسطية الإسلام (2) المظاهر مميز

كتبه 
قيم الموضوع
(2 أصوات)


 

   وبعد أن بينا حقيقة الوسطية نأتي إلى بيان بعض مظاهر وسطية الإسلام، وسطيته في الاعتقاد والأخلاق والعبادات وسائر التشريعات، ولنبدأ بالاعتقاد:

أولا : وسطية الاعتقاد

إن عقيدة الإسلام هي العقيدة الموافقة للفطرة التي فطر عليها الإنسان، وهي التي تحقق له التوازن في الحياة ، والناس في باب الخضوع والانقياد في هذه الدنيا منهم من سلم أمره للطواغيت من عباد وأوثان جعل لها سلطة مطلقة عليه، ومنهم من رفض الخضوع والانقياد لأي كان إلا لشهواته ونزواته النفسية، والعقيدة الإسلامية ترفع الإنسان من أوحال الشهوانية والإباحية وتحميه من الخضوع لغير الخالق جل وعلا، كما قال تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران/64] وقال : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان/43] .

 

وسطية الإسلام (2) المظاهر

فالإسلام وسط بين مذاهب الملحدين المنكرين لوجود الإله، ومذاهب المشركين المعتقدين تعدد الآلهة، ووسط في جميع القضايا الاعتقادية التي اختلفت فيها البشرية، وأول نص في القرآن يؤكد على الوسطية فس سورة الفاتحة مرتكز على العقيدة فعقيدة الإسلام وسط بين عقائد اليهود وعقائد النصارى فيما انحرفوا فيه عن الصراط ، ويتجلى ذلك في بعض النقاط منها :

-الموقف من عيسى عليه السلام فاليهود جعلته كذابا وأهانته وجعلته ابن زنا وسعت إلى قتله، كما صنعت ذلك مع أنبياء آخرين قبله، والنصارى عظموه وغلو فيه حتى جعلوه إله تجلى في صورة بشر، وحقيقة عيسى عليه السلام بين هؤلاء وهؤلاء، وهو أنه عبد من عباد الله الصالحين اختاره ليكون آخر الرسل إلى بني إسرائيل.

-وفي باب الفرق بين صفات الإله وصفات البشر، فاليهود وصفوا الإله بصفات البشر التي فيها النقض كقولهم استراح وإنه فقير ويده مغلولة وأنه يندم وغير ذلك مما هو في توراتهم المحرفة، والنصارى وجعلوا الإله –الأب- في فلسفتهم روحا أو عقلا منزها عن الأسماء والصفات والمكان، وجعلوا الصفات الورادة في العهد القديم كلها مجازات.

   ومما ينبغي ملاحظته أن المنحرفين من المسلمين في باب الصفات قد اتبعوا سنن السابقين، فالمعطلة المؤولة للصفات تبع للنصارى والمشبهة الممثلة تبع لليهود، وهذا ما أخبر به النبي e وصدق حين قال: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ» رواه البخاري.

-وحديثنا عن غلو النصارى في عيسى عليه السلام يجرنا إلى الحديث في الموقف من الصالحين، فأما اليهود فقتلوا الأنبياء وفي كتابهم جردوا كثيرا منهم من النبوة وأهانوهم كما فعلوا بنوح ولوط وداود عليهم السلام، وأما النصارى الذين جعلوا عيسى إلها فقد جعلوا من الحواريين أنبياء واعتقدوا عصمتهم، وظهر عندهم ما يسمى بالقديسين أي المعصومين والمنزهين.

   وكذلك شأن المسلمين المنحرفين في هذا الباب إذ فيهم من غلا في بعض الصحابة أو في الصالحين فنسبوهم إلى العصمة، أما من رفعهم إلى مقام النبوة أو زعم أن الإله يحل فيهم فهذا لا يعد مسلما أصلا.

-وعقائد الإسلام أيضا وسط في باب الإيمان بالغيب بين من لا يؤمن إلا بالمحسوسات فلا يؤمن بالملائكة ولا الجن وربما ولا الجنة والنار، وبين من يؤمن بكل شيء غيبي حتى يصدق بالخرافات، والوسط في هذا الإيمان بالغيب الذي دل عليه الدليل والبرهان من كتاب الله تعالى وسنة النبي e .

   ومما يتبع هذا الباب والذي قبله الموقف من الأمور الخارقة للعادة المسماة معجزات أو كرامات، فالمنحرفون فيها من أمة الإسلام بين عقلاني منكر لكرامات الصالحين وكثير من معجزات النبي e ، وبين صوفي خرافي يثبت كل ما هو غير عادي للصالحين، حتى لو كان شيئا من خصائص الألوهية أو النبوة ، ومنهم من يعتبر بعض القبائح والكبائر من الكرامات أيضا.

   وأهل الوسط يؤمنون بالكرامات التي هي ثمرة اتباع النبي e، وهي دليل قدرة الله تعالى ونصرته وتأييده للصالحين، أول هذه الكرامات وأعظمها على الإطلاق لزوم الاستقامة على شرع الله تعالى.

   ولو تتبعنا جميع قضايا الاعتقاد لطال بنا المقام ولما وسعتنا هذه المحاضرة، وخاصة إذا تتطرقنا إلى انحراف الفرق الإسلامية يمنا وشمالا فيها فنكتفي بهذا الذي ذكر لنتطرق إلى قضايا أخرى.

ثانيا : وسطية العبادات

   وتظهر وسطية الإسلام في باب العبادات، وفي الناس من يرى في العبادات قيدا ووثنية وتخلفا وذلا منافيا للحرية، وهناك من يرى العبادة لا تتحقق إلا بالانقطاع عن الدنيا والرهبنة ، والإسلام بين هذا وذاك، وازن بين حاجة الروح وحاجة البدن ولم يكلف النفس خلاف فطرتها ولا أكثر من طاقتها كما قال تعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص/77] وقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة/201، 202] وقال e«اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر» رواه مسلم .

   وكما ابتدع النصارى الرهبنة ابتدع كثير من المسلمين التصوف فدعوا إلى الانقطاع عن الدنيا والخروج عن متاعها تصفية للقلوب وتزكية للنفوس، وكما لم يقدر النصارى على تحمل ما ابتدعوا فصاروا إلى الفسق وأكل أموال الناس بالباطل، كذلك المتصوفة المتأخرون لم يرعوا تصوف المتقدمين حق رعايته، فصاروا مرتزقة باسم الدين وبعد أن قال الغزالي من القدامى لا تكون صوفيا حتى تتصدق بكل ما تملك صار متصوفة الزمان أغنى الناس، وقال علماؤنا قديما حكاية عن حال العامة التي تصدقهم في زعمهم الولاية :« نعبدهم ونرزقهم».

وبسبب الرهبانية النصرانية ظهر الإلحاد والعلمانية في أروبا، وبسببها جاء المارتن لوثر بما أسمي إصلاحا حيث ألغى من النصراني مظاهر الغلو في الصالحين والقديسين وبدعة الرهبنة وصكوك الغفران ونحو أربعين بدعة، فصار أتباعه كالمرجئة في المسلمين يدينون بإيمان بلا عمل لأن أكثر عبادات النصرانية ألغاها واعتبرها بدعا، وصار كثير منهم يعبر عن الإيمان بالتوكل أي التوكل على عيسى عليه السلام في مغفرة الذنوب.

   على أن هذا الغلو في الدين والعبادة خاص بطائفة الرهبان عند النصارى أما عامة الناس فليس لهم من ذلك نصيب إلا الشيء القليل، ومما أحب حكايته في هذا السياق أني لقيت شابا فرنسيا هداه الله تعالى للإسلام فسألته عن الفرق الذي يحس به بين ما كان عليه وما هو عليه فكان مما قال أنه وجد في الإسلام أعمالا كثيرة ومتنوعة يتقرب بها إلى الله تعالى ، أما في النصرانية فلا توجد إلا صلاة الأحد وهو شيء قليل، وهذا يدلنا على أن العبادات في الإسلام فيها استجابة لداعي الفطرة للحاجات الروحية للإنسان.

ثالثا : وسطية الأخلاق

وكذلك الأخلاق والتعامل مع الناس أحكامها في الإسلام وسط بين المثالية والواقعية، لأن الإنسان ليس ملاكا ولا ينبغي له أن يكون حيوانا ، فلا ينبغي أن يكلف بلا يطيقه، ولا يجوز أن يطلق له العنان ، والإنسان مكون من روح وجسد وركب فيه عقل وشهوة، فلا بد أن يكون التشريع الأخلاقي مراعيا لهذه الحقيقة، وما دام الله تعالى هو الخالق لهذا الإنسان فهو الأعلم بما يصلحه، كما قال تعالى : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك/14].

   وفلاسفة الأخلاق مختلفون فالقدامى منهم يدعون إلى التخلق بأخلاق الله تعالى، وهذه الدعوى إلى مثالية فوق الملائكية، والمحْدَثون يرون الإنسان مصدرا للأخلاق، أي ما اتفقت عليه كل جماعة بشرية في زمان ما ومكان ما كما هو رأي الحداثيين، وكان ذلك بمثابة ضربة قاضية للقيم الأخلاقية المتفق عليه، ثم ظهر رأي يدعو إلى اعتبار كل فرد مصدر للأخلاق وهو ما اصطلح على تسميته ما بعد الحداثة، وهو إقرار للفوضى الأخلاقية.

   أما في الإسلام فنجد قوله تعالى تعالى : (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة/286] فمصدر التكليف وضبط القيم هو الله تعالى وليس الإنسان، وأما النفس فمحكومة وليست مصدرا لانتاج القيم، لكن الله تعالى الحكيم العليم لا يكلفها إلا بما يتناسب وقدراتها، وقال تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام/116] فالإنسان لا يمكن أن يكون مصدرا للقيم سواء في حالة الانفراد أو الاجتماع؛ بل ولو كان رأي الأكثرية المطلقة المتجاوزة لحد الزمان والمكان.

   هذا من حيث المبدأ ومن حيث التفصيل والتطبيق نضرب أمثلة تجلي مراعاة حال التوازن المذكورة، ومنها مسألة رد العدوان، يقول ربنا عز وجل: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [البقرة/194] فهذا إثبات لحق الرد والدفع وهو موافق للفطرة؛ لكنه ضبط "بالمثلية" وهذا كبح لجماح الحيوانية التي قد تدفع إلى الإفراط في القوة والانتقام، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى/39، 40] وفي هذه الأية تأكيد للأمرين السابقين حق الرد ثم المثلية في الرد، وزيادة أمر آخر وهو تشريع العفو والإصلاح الذي رغب فيه من غير إلزام لأن مصلحة تطبيقه تختلف باختلاف الحال، ومثله قوله تعالى:(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران/134].

   وفي مجال الإنفاق، يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان/67] (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف/31].

وفي مجال الجد واللعب والهزل كذلك الإسلام رسمت فيه حدود التوازن بأن يكون الأصل في الحياة هو الجد كما نجده في سيرة المصطفى e، ولا يمنع ذلك أن تكون أوقات للعب والهزل لكن قد ضبط اللعب بضوابط تجعله مفيدا، وكذلك الهزل بما لا يخرجه عن الأدب والاحترام والصدق. وقد ثبت عن النبي e أنه شارك شباب في لعبة الرمي والتسديد، وأنه كان يتفرج ومعه عائشة رضي الله عنها على الأحباش وهم يلعبون في المسجد بالرماح، ودعا إلى اللهو المباح في العيد وقال :« لتعلم يهود أن في ديننا فسحه ».

رابعا : وسطية التشريع

   ومن مظاهر وسطية الإسلام وسطيته في التشريع في المصادر والمسائل، ونذكر شيئا يتعلق بالمصادر لأني أراها أهم لأنها بمثابة الكليات الجامعة التي إذا ثبت فيها الاعتدال ثبت في التشريع كله.

[المصادر]

   من المسائل الأصولية المطروقة في باب مقارنة الأديان أن اليهود منعوا من النسخ الذي معناه أن يرفع الله تعالى حكما ويشرع مكانه حكما ، ويدل على ذلك قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة/142] وقوله سبحانه : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) [البقرة/91] فهم من هذه الحيثية ينازعون الإله حقه في التشريع بحسب ما يصلح للعباد وما يصلحهم، ومن جهة أخرى قد جعلوا لأنفسهم أو أحبارهم حق تبديل كلام الله تعالى وتغيير أحكامه ، وهم هنا قد جمعوا بين الإفراط والتفريط .

   وفي الإشلام التشريع تشريع الله تعالى يمحوا يشاء ويثبت ، لا دخل فيه للعباد ليحكموا على الله تعالى أو على تشريعاته، كما تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة/106]

   وهذا يسوقنا إلى أصل آخر وهو أن الشريعة الخاتمة خالدة لا تقبل النسخ أو التبديل؛ لأنها رست على إحلال الطيبات وتحريم الخبائث، وكل ما يحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف/157].

   ومما يتعلق بالمصادر تحديد مهمة العقل في التشريع وهي مهمة فهم للأحكام (استنباط للحكم أو لمصلحته) وتطبيق لها على الوقائع (تحقيق المناط)، ومن الناس يرفع العقل فوق منزلته إلى درجة النصوص في تحديد الأحكام أو المصالح وربما يعارض به النصوص ذلك يتضمن جعله في رتبة أعلى من النصوص، ومن الناس من يعطل العقل عن مهمته ودوره فيكتفي بالتقليد المحض لآراء الرجال، ومنهم من يغرق في غمط العقل بتحكيمه للمنامات أو الاعتماد على التوفيق أو ما يسمى كشفا دون مراعاة للنصوص أو ما يعقله العربي منها.

[نماذج فقهية]

   والحديث عن الوسطية في التشريع من أوسع الأمور لأن مجالات التشريع كثيرة، لكن حسبنا أن نختار نماذج من بعض الأبواب الكبرى في الفقه الإسلامي.

-من الزكاة

ففي الزكاة التي شرعت رحمة للفقراء وتطهيرا لقلوب الأغبياء من الشح وتمتينا للرابطة الاجتماعية وتقليصا للفوارق الطبقية، نجد جزئيات تشريعية فيها اعتبار للوسطية ، كقوله e لمعاذ:« إياك وكرائم أموالهم» مع قوله :« ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار» فلا يؤخذ في الزكاة الخيار من المال كما لا يؤخذ الرديء.

-من أحكام الأسرة

وفي أحكام أسرة نجد تشريع تعدد الزوجات مع ضبطه بالعدد المحدود والقدرة والعدل ، وهذا يحقق العدالة في المجتمع وهو خير من تشريعه بلا ضابط أو تحريمه بإطلاق، لأن التعدد بلا ضابط يؤدي لا محالة إلى تشتت الأسر وتضييع الأولاد، وتفكك في المجتمع، وكذلك تحريم التعدد يؤدي إلى ذلك في صور منها منع رجل طلق امرأة ولها أولاد وتزوج من أخرى وأنجبت له أولاد من أن يرجع إلى الأولى إلا بفراق الثانية.

   وهذا يسوقنا للحديث عن تشريع الطلاق في حد ذاته فهو رحمة لأنه يحتاج إليه لأن الفراق أحيانا هو العلاج لبعض المشاكل الزوجية، لكن لا بد من ضبطه حتى لا يستغل للإضرار بالمرأة كما كان أحدهم في الجاهلية يطلق المرأة فإذا قاربت عدتها من الانتهاء أرجعها ليعلقها.

-في المعاملات المالية

   وفي المعاملات المالية نقتصر على ذكر المبدأ العام في الإسلام وهو احترام الملكية الخاصة وعدم هضم حقوق العامل، فالمبدأ الإسلامي متخلف تماما عن الليبرالية التي تقدم الفرد المالك على المجتمع تحترم ملكية وتعطيه حرية مطلقة على حساب غيره، وهو أيضا مختلف تماما عن الاشتراكية التي تزعم تحقيق العدالة الاجتماعية بمنع الفرد من حق التملك لوسائل الإنتاج، الأمر الذي يؤدي لا محالة إلى عدم الإنتاج، وخاصة إذا طبق المبدأ الشيوعي كل يأخذ حسب حاجته سواء أنتج أو لم ينتج.

فالشريعة الإسلامية عالجت المعاملات على أساس أنها تعاملات أفراد وضبطتها بضوابط أخلاقية وأخرى قضائية من أجل الحفاظ على الحق العام وكبح جماح أطماع الملاك الكبار كتحريم الربا بأشكاله والاحتكار وتلقي الركبان، ونحو ذلك.

-في الحدود

ولعلي أختم الحديث عن الوسطية في أمر مهم يتحرج كثير ممن تحدث عن سماحة الإسلام عن الخوض فيه، وهو موضوع الحدود ، ولنضرب مثالا لحد الزنا، الذي لا تحرمه الشرائع الوضعية إلا إذا اقترن بالاغتصاب أو الخيانة الزوجية، وقصرت عقوبته على السجن، أما تحريمه بإطلاق فهو الوسطية الحكيمة بل تحريم أسبابه من تبرج واختلاط وخلوة ونحو ذلك وشعار الوسطية هنا "أترضاه لأهلك".

وبالنسبة للعقوبة فعقوبة الجلد بالنسبة لغير المحصن أرحم من القتل في شريعة اليهود، وهذا ظاهر وأرحم من السجن بالنسبة للشرائع الوضعية، لأن السجن هو حرمان للإنسان من حريته والقيام بواجبة تجاه أسرته ومجتمعه، فالسجن ظلم للإنسان وإن كان مجرما وظلم لأسرته وهي ضحية لا تقترف جرما وكذا للمجتمع الذي تتعطل بعض مصالحه، بخلاف الجلد فهو عقوبة غير متعدية لساعة من الزمن .

   وقد استفاد علماؤنا انطلاقا من قصة الغامدية عدة أحكام في تنفيذ هذا الحد مرجعها إلى الرحمة في تطبيق العقوبة، فنصوا على أنه لا ينفذ حد الجلد في حق مريض حتى يبرأ، وأن السوط ينبغي ألا يكون جديدا ولا عتيقا، وعلى من يجلده أن لا يبالغ في رفع يده، ويراع في صفة من يَجلد بنية المجلود حتى لا يقضي عليه ويؤمر بتوزيع الضرب على أعضائه حتى لا يتلفها ، ونص المالكية على أنه لا يجلد في الحر الشديد ولا في البرد الشديد لأن ذلك يزيد في ألمه .

   هذا هو ديننا دين الرحمة والوسطية في كل شيء، قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء/107] نسأل الله تعالى أن يثبتنا على دينه وطاعته، وأن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

  

تم قراءة المقال 7072 مرة
المزيد في هذه الفئة : وسطية الإسلام (1) المفهوم »