طباعة
الأربعاء 17 محرم 1443

(46) التربية الأخلاقية : التربية على التواضع

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

المبحث الرابع : التواضع
 
   ومن أهم مضامين التربية الخلقية التربية على التواضع ولزوم خفض الجناح وعدم الترفع على عباد الله تعالى، ولقد كان من وصايا لقمان الجامعة الوصية بهذا الخلق، إذ قال تعالى : ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان:18). "لا تصعّر" و"لا تصاعر" أي لا تمل عنقك، وإمالة العنق أمام الناس من دلائل الكبر، وعلامة احتقار الناس، ثم قال: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً)، فنهاه عن مشية المرح وهي الاختيال وقلة المبالاة بالناس، وذلك من دلائل العجب والغرور والكبر، وكل ذلك يتنافى مع خلق التواضع.
     ثم قال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )، أي أن الله تعالى يبغض المختال بأفعاله والفخور بكلامه، وإذا صرح بالنهي عن مظاهر التكبر بالحركات فمن باب أولى أن ينهاه التكبر بالكلام لأنه أعظم إيذاء.
   وقد خُص خلق التواضع بالذكر من بين أخلاق كثيرة تتعلق معاملة الناس، لأن التواضع يعتبر سببا لخير كثير، كما أن الكبر رأس كل شر، وقد قال تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83)، فجعل سبحانه الجنة لأهل التواضع؛ لأنّ من معانيه التواضع للشرع والتواضع للحق، ولأن الكبر كان سببا للكفر وردّ الحقّ والانحراف عن منهج الله تعالى.
    وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضا: « لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ » رواه مسلم. وذلك أن الكبر يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين التي تقود إلى الجنة، إذ المستكبر يرى نفسه كاملة فلا يسعى إلى علاجها من آفاتها ولا إلى تكميلها بالفضائل، والمستكبر يحتقر الناس؛ فلا يرى لهم حقا ولا يعتقد لهم حرمة، فيستبيح أعراضهم وأموالهم ودماءهم، وكذلك المستكبر يرى أنه أولى من الناس بكلّ خير فيقع في الحسد، والمستكبر أيضا لا يسمع النصيحة ولا يقبل الحق من قائله، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ(أي رده)، وَغَمْطُ النَّاسِ (أي احتقارهم)» رواه مسلم. والمستكبر أناني يحب نفسه ولا ينفع غيره ولا ينفع أمته ودينه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :« لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفق عليه.
كيف نربي أولادنا على التواضع
أولا : الوعظ والتذكير
   أول طريق لتربية الولد على خلق التواضع الإرشاد والوعظ والتذكير، ولا يشترط استحضار النصوص في ذلك وليس كل الآباء حافظ لها أو مستحضر لها عندما تدعو الحاجة، ومن ذلك أن يقول المربي :
-يا بني إن التواضع خلق المسلمين، والكبر خصلة ذميمة لا يحبها الله تعالى ولا يحب أهلها.
-يا بني إن المتكبر إنما يتكبر بقوته وصحته أو جماله أو علمه وممتلكاته وماله، وهذه نعم الله تعالى وفضله يؤتيها من يشاء وينزعها ممن يشاء.
-يا بني إنه لا يحق لأحد أن يتكبر لأنه مهما رآى نفسه كاملا فهو ناقص، إن أصله من التراب ومصيره إلى تراب، وإنّه مخلوق من ماء مهين، وخُلق ضعيفا وأخرجه الله سبحانه من بطن أمه وهو جاهل لا يعلم شيئا.
-يا بني إن الكبر حمق ودناءة، وإنك إذا تكبرت فلن يزيدك ذلك رفعة عند الله تعالى ولا عند الناس، قال تعالى : ( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) (الإسراء:37) .
ثانيا : التعويد والتكرار
   ومن طرق تعليم الولد خلق التواضع بتعويده على أعمال تورثه ذلك كمجالسة الفقراء وتلقينه العطف عليهم وعلى المرضى والزمنى، وتكليفه بأعمال تورث ذلك مثل كنس البيت أو الحي المجاور للبيت أو رعي الغنم إن أمكن ذلك، وكذا حمل المشتريات من السوق ولو كان فيها ثقل، ولا ننسى إجلاسه في حلق العلم فثني الركب عند المعلم من أعظم ما يعلم التواضع ، يروى مرفوعا ولعله من كلام بعض الصالحين :« مَا اسْتَكْبَرَ مَنْ أَكَلَ مَعَهُ خَادِمُهُ، وَرَكِبَ الْحِمَارُ بِالْأَسْوَاقِ، وَاعْتَقَلَ الشَّاةَ فَحَلَبَهَا »(روي مرفوعا وحسنه الألباني). وفي رواية :«مِنَ كُنَّ فِيهِ أَرْبَعٌ فَهُوَ مِنَ الْمُتَوَاضِعِينَ مَنْ أَكَلَ مِعَ خَادِمِهِ وَعَقَلَ شَاتَهُ وَرَكِبَ الْحِمَارَ وَحَمَلَ مَا ابْتَاعَ مِنَ السُّوقِ».
ثالثا : الترغيب في التواضع والترهيب من الكبر
   ومن طرق التربية على خلق التواضع الترغيب فيه ، ومن ذلك أن يعلم الولد:
-أن أول صفات عباد الرحمن الصالحين التواضع، قال تعالى : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63).
-وأن التواضع أول صفة المحبين لله تعالى الذين يحبهم، قال تعالى : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة:54).
-وأن التواضع هو من يورث الرفعة في الدنيا والآخر لا الكبر، كما قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» رواه مسلم.
   ومن الطرق أيضا الترهيب من الكبر الذي هو نقيض التواضع وناقضه :
-فيذكر له قول المولى عز وجل في الحديث القدسي:« اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ رواه مسلم وأبو داود واللفظ له.
-ويكرر له ذكر قصة إبليس اللعين الذي كفر بسبب كبره، كما قال تعالى : (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (الأعراف:13).
رابعا : القدوة
   من طرق التربية على التواضع أن يرى الولد هذا الخلق في والديه، في كلامهم ولباسهم وحركاتهم، فليحذر الآباء كل الحذر من أن يرى منهم أولادهم شيئا من التكبر على خلق الله تعالى، أو التنقص منهم لشيء من صفاتهم الخلقية، أو أحوالهم الصحية أو الاجتماعية، وليحذر الآباء من أن يرى منهم أولادهم احتقار بعض الناس سواء بسبب لونهم أو جنسهم أو لغتهم أو مكان سكناهم أو حرفتهم، فإن ذلك من القدوة السيئة وسوء التربية.
خامسا : القصص
   من طرق التربية على القدوة القصص ، وأول ما يفيد في ذلك الروايات التي تبين تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق أجمعين، ولقد كان ذلك من أظهر الأخلاق في سيرته العطرة، فإنه كان يسلم على الصبيان ويداعبهم، ويأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم، ويأكل على الأرض ويركب الحمار ويمشي في الأسواق ويخالط العبيد والمساكين، ونهى صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في مدحه وإطرائه، وقال قولوا عبد الله ورسوله وزجر من قال له سيدنا.
     ومن القصص قصص الصحابة رضي الله عنهم، وأولهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقد كان يحلب لبعض الأيتام أغنامهم، فلمّا استخلف قالت جارية منهم الآن لا يحلبها، فقال أبو بكر بل وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله، وسبب فعله ذلك أن العرب كانت تستقبح من النساء أن تحلب فإذا غاب الرجال احتاج النساء إلى من يحلب لهن .
   ومن ذلك قصة عمر رضي الله عنه فقد رآه بعض التابعين حاملا قربة ماء، فقال يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا فقال عمر :" لما أتاني الوفود سامعين طائعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها".
   وكان رضي الله عنه يلبس ثوبا مرقعا وهو خليفة المسلمين، وكان  يتعاهد الأرامل يستقي لهن الماء بالليل ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة فدخل إليها طلحة نهارا فإذا هي عجوز عمياء مقعدة فسألها ما يصنع هذا الرجل عندك قالت هذا مذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى فقال طلحة:" ثكلتك أمك يا طلحة أعورات عمر تتبع".
   ومما يروى قول مجاهد صحبت ابن عمر رضي الله عنهما في السفر لأخدمه فكان يخدمني، وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه أن يخدمهم في السفر [جامع العلوم والحكم (2/ 295)].

تم قراءة المقال 678 مرة