المبحث السادس : التربية التاريخية للأطفال
يعتبر التاريخ مرآة الأمم يعكس ماضيها ويترجم حاضرها، ومن خلاله تستلهم مستقبلها، وإنه من الأهمية بمكان العناية به، تدوينا ونقلا إلى الأجيال، حتى يكون لها نبراساً هادياً في حاضرها ومستقبلها، والأمم التي تعيش بدون تاريخ أمم لا ذاكرة لها، وهي معرضة لإعادة إنتاجه مرة أخرى من غير استفادة منه وذلك في غير صالحها.
وللتاريخ أثر عظيم في التربية الفكرية للأجيال وفي تكوين شخصية الأفراد، وإننا بتعليم تاريخنا للناشئة نرسخ فيهم البعد الإسلامي والعربي لثقافتنا وحضارتنا، ونكوّن لديهم معاني الوطنية الصحيحة، وهذا أمر بين لا ينكره إلا جاهل أو متآمر.
مما ينبغي أن يعلمه المربي أن معرفة التاريخ الإجمالي لأمتنا وليس تفاصيله؛ من العلوم العامة التي يحتاجها كل فرد من أفراد الأمة؛ فهو كتعلم القراءة والكتابة والحساب، لأن فائدته تتعلّق بتكوين شخصية المرء وبناء فكره.
إنه لأهمية التاريخ في الحفاظ على الهوية وصناعة الشخصية الإسلامية حرمت فرنسا على آبائنا يوم كانت جاثمة على أرضنا أن يدرسوا تاريخ أمتنا، وفرضت على من تعلم منهم في مدارسها أن يدرس تاريخ فرنسا ليصير فرنسي الشعور والتفكير، وانتدبت من جهة أخرى من يكتب تاريخا مغلوطا لبلدنا، لتقطعه عن حضارته العربية الإسلامية وتربطه بتاريخ أوروبا الرومية والنصرانية، ولكن الله تعالى سلم ولم يمكنهم من بغيتهم، وأصبح صنيعهم هذا جزءا من التاريخ الذي يعتبر به المعتبرون.
علاقة التاريخ بالشخصية الإسلامية
أولا : علاقة التاريخ بالعقيدة الإسلامية
مما تجدر الإشارة إليه أن تاريخ أمتنا الإسلامية يعتبر علما شرعيا من جهة ثمرته ومن جهة كثير من مضامينه، لأن قسما كبيرا منه مرتبط بعقيدتنا، متعلق ببدء الخلق وتاريخ الأنبياء والمرسلين وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجزء عظيم منه جاء موضحا في القرآن الكريم من خلال القصص الذي تضمن أخبار الأمم الماضية، وقد امتن ربنا عز وجل على نبيه الكريم بهذا القصص وجعله من جملة ما أسداه إليه من النعم، فقال جل وعلا: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا) (طه:99). وكذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه بأخبار الأمم الذين قبلهم، ما يشرح به صدورهم ويقوي إيماناهم ويشد عزائمهم ويثبتهم.
ثانيا : تميز الأمة الإسلامية بتأريخها الخاص بها
كما تتميز الأمم بلغتها وحضارتها التي تتمسك بها وتعتز بها، وتربي عليها أبناءها، فكذلك تتميز بتأريخها الذي تربط به أهم محطاتها وتجاربها في الحياة، وتضبط به أعيادها ومختلف المواسم والمناسبات الخاصة بها.
والأمة الإسلامية قد تميزت بالتاريخ الهجري المرتبط بالهلال، وهو التاريخ الذي تعلم به مواسم العبادات من صيام وحج وحول الزكاة وغيرها، قال القرطبي :"الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط"، ودليل ذلك قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (التوبة:36) كما يدل عليه قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة:189) فجعل المواقيت متعلقة بالشهور القمرية وخص الحج بالذكر لكونه علما على نهاية الحول، ولا مانع من اعتماد التقويم الشمسي في الشؤون الفلاحية؛ لارتباطها بالفصول الأربعة الناتجة عن موقع الشمس من الأرض، والذين تعيشه الأمة الإسلامية في البلاد التي عرفت الغزو الصليبي هو تغييب التاريخ الهجري عن حياة الناس كما غيبت الشريعة الإسلامية ولا يزال الأمر كذلك إلى يومنا.
ثالثا : ارتباط التاريخ بالقيم والأخلاق
إن التاريخ كما سبق مرآة للشعوب ترى فيها ماضيها وأمجادها ومآثرها وأخلاق أسلافها، وإن مما نجده في تاريخ أمتنا من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام مواقف وخصال نفخر بها وتجعلنا نعتز بالانتماء لهذه الأمة، وإذا تحدثنا عن التاريخ فلا نحصر عقولنا في تلك الدائرة الضيقة للتاريخ السياسي التي لها إيجابياتها وسلبياتها، لأن صناع التاريخ الإسلامي فيهم رجال السياسة وفيهم رجال العلم والثقافة، والمواقف التي سجلها التاريخ في تراجمهم تعتبر مرآة تعكس لنا صورة واقعهم، وكيف كان تعاملهم وعيشهم، وتعبر عن القيم التي كانت سائدة وحاكمة في عصرهم.
رابعا : ارتباط التاريخ بالانتماء للأمة وللأوطان الحديثة
لا شك أن دراسة المسلم لتاريخ الإسلام يعمق من شعوره بالانتماء إلى هذا الدين؛ وكذلك دراسة تاريخ الوطن الذي ينتسب إليه الإنسان يُنَمّي تلك المحبة الطبعية له، ويزيد من غيرته عليه وعلى حضارته ومكتسباته؛ التي يعلم أنها لم تصل إليه إلا بجهود وتضحيات متواصلة عبر الأجيال، فيسعى جاهدا للحفاظ عليها، ويغيظه أن يرى من بني جلدته من ينخلع عن تلك المكتسبات ويستبدلها بغيرها.
وإذا كان مفهوم الوطنية واقعا مناص منه؛ فإن مما نؤكد عليه أن الوطنية الحقة التي يقبلها شرعنا لابد أن ترتبط بتاريخ الأمة وما يحمله من تراث ذي بعد إسلامي وعربي، وأعنى بالتاريخ التاريخ القريب منه الذي تكوّن فيه الوطن، وإذا أخليت الوطنية من معاني الدين واللغة والتاريخ أصبحت كلمة دعائية لا قيمة لها، أو ورقة إدارية لا صلة لها بكيان الإنسان تنال بمكان الميلاد أو بالنسبة لأحد الأبوين كما هو الحال في زماننا هذا وبلدنا هذا.
محاور التاريخ المطلوب وآثاره التربوية
لن نرتب هذا المبحث حسب طرق تعليم التاريخ؛ ولكن حسب المحاور التي يطلب منا بناء شخصية الطفل عليها مع بيان أثرها، لأن المطلوب من التاريخ في التربية ليس جميعه وليس ذاته؛ ولكن النظر والاعتبار منه كما قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام:11)، وأما الطرق فربما يكفي أن نذكر أن تنحصر في جانب القراءة للقصة التاريخية، وجانب المشاهدة والسماع لها في الوسائل السمعية البصرية الحديثة.
المحور الأول : قصص الأنبياء عليهم السلام
مما ينبغي أن يروى للأطفال قصص الأنبياء الكرام، الذي يتعلمون من خلاله بداية قصة الإنسان في الأرض وغاية وجوده فيها، وتاريخ الصراع بين الحق والباطل والفضيلة والرذيلة، ولابد من التنبه هنا على الاقتصار على ما ورد في القرآن والسنة الصحيحة؛ وما كان قريبا لا يعارضهما حتى لا ندخل في الأساطير والخرافات الإسرائيلية التي لا تسمن ولا تغنى من جوع، وقد يكون فيها ما هو مضاد للعقيدة الإسلامية والتربية التي ننشدها، وإن التعرف على الأنبياء والمرسلين ومعرفة أخبارهم وأحوالهم مع أقوامهم، يدخل في معنى الإيمان، وفيه من العبر الأخلاقية والفكرية ما لا يمكن وصفه وحدّه، ويكفي أن يقال إن الأنبياء الذي أُمِر نبينا أن يقتدي بهم هم قدوات لنا أيضا.
المحور الثاني : سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
ومما ينبغي أن يروى لأطفالنا أيضا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعد من أوجب الواجبات، وإن من ضروريات الدين أن يتعرف النشء منذ نعومة أظفاره على خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي يشهد له بالرسالة يذكره كل يوم، وإنّ مما يؤسف له أنْ نجد في جيل اليوم من يجهل حتى الخطوط العريضة للسيرة النبوية التي تحدد الشخصية التي ينبغي أن يؤمن بها. ومن الآثار التربوية لمعرفة هذا الجانب من التاريخ غرس محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام في القلوب وتعظيمه وتعظيمهم، وتوجيه الأولاد نحو القدوة الصالحة التي أمرنا بالاقتداء بها صراحة، كما أن لكل حادثة وموقف آثاره المتعلقة به، ولعل متابعة أحداث السيرة إلى نهايتها تجعل الطفل يتطلع بنفسه لمتابعة تسلسل الأحداث إذا ما عقل؛ فيقرأ ينفسه تاريخ الخلفاء وتاريخ دول الإسلام بعدهم.
المحور الثالث : الأبطال من صانعي تاريخنا السياسي
لما كنا بصدد الحديث عن التاريخ الذي يوضع بين يدي أطفالنا حتى يسهم في بناء شخصيتهم ويعرفهم على الجوانب المشرقة من تاريخنا، فإن مما نرشد إليه لإفادته ذلك إفادة مباشرة تعريفهم بأبطال الأمة من الخلفاء والقضاة والسلاطين والقادة الفاتحين، ولا شك أنه قد أنتجت قصص مكتوبة وأفلام كثيرة في هذا المضمار –كما أنتج في قصص الأنبياء والسيرة النبوية ما يناسب سن الطفولة – وقصص الأبصال يعرفنا بنشأة دول الإسلام، والوقائع التاريخية الكبرى التي نفخر بها، كما يصور لنا جوانب من الواقع الذي كانت تحكمه شريعة الإسلام، وأقيمت فيه العدالة الإسلامية، مما يجعل أولادنا يعتزون بدينهم وبأمجاد أسلافهم.
المحور الرابع : الأبطال من صانعي تاريخنا العلمي والثقافي
ومن الأبطال أيضا العلماء سواء علماء الشريعة أو علماء مختلف الفنون الكونية، الذي يستفيد الطفل من قراءة سيرهم محبتهم ومحبة العلوم التي نبغوا فيها، كما أنه يطلع على تضحياتهم في سبيل تحصيل العلم ولا سيما علماء الحديث الذين كان يمضون السنوات الطوال في السفر والترحال؛ في سبيل جمع السنة النبوية من مصادرها، وكان الواحد منهم يمضى من عشرة أعوام إلى عشرين عاما في تأليف كتاب واحد، كما يجد في أخبارهم مواقف بطولية وأخلاقا عالية، وينطبع مع كل ذلك في وعيه نمط عيشهم في ظل حضارة الإسلام، ولعل مما يجده الطفل في هذا قصص الأبطال مواعظ حيّة، يرى فيها سنن الله الكونية وعدالته وإنصافه للصادقين وانتصافه من الظالمين، وأنعم بها من فائدة.
المحور الخامس : التاريخ القريب للقطر الجزائري
من المحاور المهمة التي ينبغي تقديمها للناشئة التاريخ القريب للقطر الجزائري من سقوط آخر دوله –الولاية العثمانية- في يد الاحتلال الفرنسي إلى الحرب التحريرية والاستقلال، فيعلم أن أمتنا عاشت عقودا مستضعفة مقهورة، تحت ظل غزو وحشي همجي حاول بشتى الطرق محو دينها ولغتها وجميع قيمها، ولكن الأمة بفضل إيمانها بالله تعالى وتمسكها بكتاب ربها وتضحية رجالها؛ عرفت كيف تقلب موازين القوى، وكيف تسلك الطريق الصحيح إلى الاستقلال، وهذا الجزء من التاريخ مهم لناشئتنا فهو يشحذ هممهم، ويبعث فيهم الأمل والتفاؤل، ويبثٌ فيهم روح التضحية، ويبين لهم أن الأمة التي أحياها الله تعالى بالقرآن لن تموت، ويبصرهم بحجم التضحيات التي بذلت من أجل طرد الغزاة، وينبههم إلى ضرورة الوحدة في مجابهة الأعداء، كما أنه يغرس في قلوبهم كره فرنسا الخبيثة التي كانت ولازالت استعمارية وكفى بهذا أثرا.
وفي الأخير نؤكد على أن رقي الأمم وتطورها لا يبنى على مظاهر الحضارة المادية من بنايات ومؤسسات وصناعات، وإنما يبنى على العقائد والقيم والأفكار التي تصنع الرجال، لأن الرجال هم الذين يبنون الحضارات وهم الذين يكونون سببا في زوالها، فإذا أردنا أن نبني مجدا أو أن نستعيد أمجاد أسلافنا؛ فعلينا أن نهتم بصناعة الرجال قبل أي شيء آخر.