منهج البحث في علم اصول الفقه ....الحلقة الثانية ....منهج تصوير المسائل الأصوليّة
محاضرة القيت بتنقية الزوم في أكاديمية مفكرون بتاريخ 14 أكتوبر 2022
بسمِ الله الرحمن الرحيم:
إن تصوّر أي موضوع قبل الشّروع في البحث فيه أمر ضروري، ومما هو معلوم أن الحكم على الشّيء فرعٌ عن تصوّره، وفي علم الأصول مسألة مهمة طرقها بعض الأصوليين القدامى وبعض المتأخرين تخدم هذه القضية المنهجية، حيث تحدثوا عن أيهما يقدم تعلمه: علم أصول الفقه؟ أم الفقه؟ فاختلفوا في ذلك ، إذ منهم من يقول لا بدّ من تقديم الأصول وجوباً، أو استحباباً، لأنَّ الفقه إنما يستنبطُ عن طريق أصول الفقه؛ ففي تكوين العالم والمجتهد لا بدّ أن نقدم علم أصول الفقه، ولا يمكن أن تدرسَ الفقه وتكون مجتهداً فيه من غير أصول الفقه.
ومنهم من كانت له وجهة نظر أخرى وهي تقديم علم الفقه على علم الأصول، لأنَّ فهم القضايا الأصولية والتّرجيح فيها يبنى على فهم المسائل الفقهية، وممن جنح إلى هذا المذهب الإمام أبو يعلى الحنبلي والزركشي، وقالوا لا يمكن أن نخوض في المسائل الأصولية وندرسها لمن لم يدرس الفقه أصلاً ، وذلك أننا عندما نريد أن نشرح قاعدة الأمر يفيد الوجوب نمثل لها بأمثلة من باب البيوع مثلا، فهنا قد نضطر أن نخرج من أصول الفقه إلى الفقه إذا لم يسبق للطلاب دراسة تلك الأمثلة، وإذا مثلنا بمسألة من باب الصّيام وكان الطلاب لا يعرفونها نضطر أن نشرح لهم هذه المسألة، لكن إذا كان عندهم تصوّر سابق للمسائل الفقهية فإننا عندما نأتي للتمثيل أو لتخريج فرعٍ على ذلك الأصل نستغنى عن ذلك.
بل إن بعض كتب الأصول وخاصة التي ألفها المتكلمون الذين لم يمارسوا الفقه المستنبط من الأدلة أو فقه الخلاف المبني الأدلة، نجد تصويرهم لبعض المسائل الأصولية غير صحيح، مثل من يتحدث عن الإجماع السكوتي ثمَّ يقول وسكت الباقون في المجلس، فعبارة المجلس هذه ما محلُها؟ هل يجوز أن نتصور أن فقهاء الصّحابة أو فقهاء التابعين الذي ندعي أنهم أجمعوا –إجماعا سكوتيا – طرح عليهم سؤال وهم في مجلس فأجل البعض وسكت الباقون؟
إن هذا الكلام مبني على تصور خاطئ وسيعطينا تصوّراً خاطئاً، إن العلماء لم يجتمعوا أبدا في مجلس حتى في عصر النّبي أو عهد أبي بكر حين كان يمكن أن نعدَّ المجتهدين واحداً واحداً، وكذلك الإجماع الصّريح نجد بعض الكتب المتكلمين عندما يتحدث عن قضية انقراض العصر -أو إمكان الاجماع -يجعلك تتخيل ناقل الإجماع شخصا من نفس العصر ينتقل من الهند إلى الأندلس، فهل هذا الأمر ممكن؟ إن مثل هذا التّصوير هو ما أدى بكثير من المتأخرين إلى إنكار الإجماع أو إنكار إمكان وقوعه، لكن الإجماع الذي تجده في كتب الفقه محتجا به صورته مختلفه عن ذلك، إذ أن تجد العالم ينقل إجماع من سبقه ، وذلك أن التابعين كانوا ملزمين بإجماع الصّحابة والذين جاؤوا بعد التابعين كانوا ملزمين باتباع من سبقهم، وهذا هو معنى حجية الإجماع. كما قال عمر رضي الله عنه لشريح: واقضي بما قضى الصّالحون قبلك ، فالإجماع يتعذر العلم به في نفس العصر، ففي عصرنا هذا لا يمكن أن نعرف إجماع المعاصرين، ولكن عندما ينقضي هذا العصر، ويأتي عصرٌ آخر سيقولون أجمع أهل القرن الرابع عشر، والقرن الخامس عشر.
ونجد الأمر نفسه في قضايا آخرى نحو شرع من قَبلنا ، فعندما تقرأ أدلة النفاة تتساءل : هل يوجد عالم احتج بالتوراة والأنجيل، حتى نختلف في شرع من قبلنا؟ فبعض الأدلّة توهمك أن التوراة والإنجيل تدخل في محل النّزاع بل هي محل النزاع، وهذا الإنكار والنفي مبني على عدم تصوّر الصحيح، لأنَّ شرع من قَبلنا موجود في كتبِ الفقه عند علمائنا بمختلف المذاهب والمقصود هو المحكي في كتاب الله وفي سنة النّبي ، دون ما هو محكي في التوراة والإنجيل ولا يوجد عالم احتج بهذه الصورة الأخيرة.
إذاً قضية التصوّر قضية مهمة جداً، ولتصوير المسائل كما لا يخفى عليكم عدة طرق ، فعندنا الحدود والتّعريفات والأمثلة، وطرق أخرى غيره سنذكرها إن شاء الله إن سمح الوقت في هذه العُجالة.
أولاً: التّعريف والحدود:
وهنا لا بدَّ أن نتفق أنَّ المقصود بالتّعاريف الذي نسطرها بحوثنا هو تمييز الأمور المشتبه، وليس هو معرفة كنهُ الشّيء وماهيته كما يفرضه المناطقة في ظلِّ ما يسمونه حداً، ولما كان المقصود التّمييز فنحن نحرص أن تكون هذه التعاريف جامعة مانعة فقط ، أما معرفة الماهية فإنها لا تكون إلا بالجنس والفصل أو الجنس والخاصة كما يقوله المناطقة، ولذلك نجد من التزم الحد المنطقي كثيراً ما يُصرح –نحو الجويني والرّازي- بأن الحدّ عسير، والعسر إنما جاء من التزام قوانين الحدّ المنطقي لا من طبيعة هذه المسائل.
ولما كان المقصود أن نميّز الأمور المشتبهة، تجدنا نعرف القرآن، مع أن القرآن معلوم، لكننا نعرفه لنميزه عن السّنة، وعن الحديث القدسي، وخاصة أننا نزعم أنَّ السّنة وحي أو أكثرها وحب إذا أثبتنا اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا حصل التّمييز انتهت المهمة ولا نبحث عند ذلك الحدّ المنطقي الذي يعسر الوفاء بشروطه سواء في العلوم الإسلامية أو في غيرها.
وهذا يسوقنا أيضاً إلى فائدة ذكر المحترزات، وهو التأكد من كون التّعريف جامعاً لجميع الصّور التي تدخل في الشّيء المراد تعريفه، ومانعا يخرج غيرها من الصور المشابهة لذلك عندما نحترز؛ نحترز عما هو قريب، ولا نحترز عما هو بعيد جداً لا يخطر على بال الطالب، مثل عندما نعرف الفقه فنقول: هو العلم بالأحكام الشّرعية المكتسب من أدلّتها التّفصيلية، فقولنا المكتسب احتراز عما يقابله وهو الضروري، أي المعلوم من الدّين بالضرورة فالعالم به لا نسميه فقهياً ، والفقه الذي يتعلمه المرء فيصبح فقيهاً هو المكتسب، فهذا شيء قريب، لكن أن يقول الشارح قولنا المكتسب نحترز به عن علم الله تعالى وعن علم الأنبياء، فهذه أشياء بعيدة لم تخطر ببال الطالب ولا القارئ حتى يجب أن نحترز عنها.
والخلاصة أن المقصود بالتّعريف هو تمييز الأشياء عمّا يشبه بها، فنرسم الحدود بينها.
هل يلزم التّعريف في كل بحث؟
البحوث الأكاديمية جعلتنا نلتزم بذلك، لكن هناك نوع من المغالاة، فمثلاً عندما نقسم السّنة إلى أقوال وأفعال وتقريرات، فالحاجة تدعو إلى تعريف التقريرات، لأنَّه ليس كل ما سكت عنه النّبي يعتبر تقريراً وينسب إليه، لكن أن نعرف الأقوال فهذا تكلف لا حاجة إليه.
ومن الأشياء التي رأيتها عند بعضهم في بحوث أكاديمية، أنهم يُعرفون الصّلاة ويُعرفون الزكاة، وهذه الأشياء قد فرغَ منها، ولا حاجة لنا إلى تكرارها، ومن أغرب ما رأيت أن أحدهم بحث في موضوع اقتصادي فمر على حديث: الناس الشركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنار، فاجتهد أن يعرفها لغةً واصطلاحاً، تعريف الماء لغة واصطلاحا وتعريف النار لغة واصطلاحاً، وهذا غلو وخروج من مقصود التعاريف، لأنَّ المقصود من هذا التّعريف هو التصوّر، فإذا كان التصوّر حاصلاً عند الجميع، فما فائدة تسويد الأوراق في أشياء لا تفيد.
وهل نحن ملزمون بالتّعريفات اللّغوية أكاديميا؟ وهل هي من الضّروري أن تقدم على التعاريف الاصطلاحية؟
الذي وجدناه عند علماء الأصول كالقاضي أبي يعلى والباقلاني من المتقدمين ذكر المعاني اللّغوية للمصطلح من أجل بيان العلاقة، لا ذكرها ذكرا مجردا مستقلا كما يصنع الكثير منا، وبعض الأصوليين القدامى كان يذكر التعريف الاصطلاحي ثمَّ بعده اللّغوي حتى يتسنى له بيان العلاقة بين المعنيين الاصطلاحي واللّغوي، لكن بعضنا في هذا الزمان يغلو حتى يجعل البحث اللّغوي أصلاً، ويكتب فيه الصّفحات الطويلة.
من نماذج مثلاً أن نقول: العام هو ما اشتمل على معنيين اثنين فصاعداً، لماذا؟ لأنَّ معنى العموم في اللّغة هو الشّمول، فنذكر المعنى الاصطلاحي ثمَّ المعنى اللّغوي مع الدلالة على الرّابط.
بعض الباحثين في عصرنا يأخذون المسائل المنهجية على أنها تعبديّة، لا بدّ عندهم أن يضع تعريفاً، ولا بدّ أن يضع التّعريف اللّغوي، والواقع أن هذه أشياء معلّلة.
قضية نقد التّعريف:
يقال لنا لا تذكروا لنا المعنى المختار إلا بعد نقد التّعاريف السابقة، وهذا مقبول في بحوث أكاديمية لأنَّ المفروض أنّها موجهة لفئة درست وتعرف هذه التّعاريف مسبقا ولم تستفدها من هذه الاطروحة، لكن هناك إشكال في ميدان التّعليم، لَما نأتي في درس ونضع التّعريف الأوّل وننقده، ثمَّ التّعريف الثاني وننقده، ثمَّ في الأخير نقول للطلبة هذا التّعريف المختار، أنا أرى أنَّ هذا منهج خطأ، لأنَّ النّقد لا بدّ أن يكون بناء على معيار، والطّالب لا يستطيع أن يفهمني لأنَّه فاقدٌ للمعيار والمعيار هو التصور السابق المعبر عنه بالتعريف المختار، والذي نراه جراء غياب هذا المعنى في بحوث كثير من الطلبة وقوعهم في التّناقضات، حيث ينقدون تّعريفا بشيء، وينقد تعريفا آخر بضده، فغياب معيار ثابت يجعله ينقل النقود غيره من مصادر متعددة دون تمييز، فيقع في التّناقض.
قلت إن هذه الأشياء المنهجية ليست توقيفية ، والمقامات مختلفة فتأليف البحوث الأكاديمية مختلف عن التأليف للمبتدئين ، ومقام التّدريس مختلف عن مقام التأليف ويمكن أنّ نخالف هذه الأشياء المصطلح عليها لمصالح تعليمية.
الأمثلة الفقهية والتفريع الفقهي
من الأشياء التي توصلنا إلى لتصوّر الأمثلة الفقهية، ويلحق بها التّفريع الفقهي، والمثال ضروري جدا لتحصيل التّصور ولإزالة الغموض الذي يكتنف بعض القضايا.
إذ في كثير من الأحيان تكون التّعاريف غامضة، فيقولون بالمثال يتضح المقال، لكن ننتبه إذا رأينا مصلحة في تقديم المثال على التعريف فلنقدم المثال ولا نبالي، فعدما تعريف القرآن لا نحتاج إلى تمثيل لأنَّ القرآن معروف لدى كل الناس، لكن هناك أشياء جديدة لا يعرفها القارئ والمتعلم، فإذا رأينا مصلحةً في تقديم الأمثلة نقدم الأمثلة، لأنّها تسهل لنا شرح التّعريف، وقد وجدنا كثير من العلماء يذكر الأمثلة بعد أن يذكر التّعريف يشعر أنَّ بعض الغموض قد بقي، فكان من أهداف المثال عندهم إزالة الغموض الموجود في ألفاظ والعبارات والحدود المجردة.
مثال ذلك: قياس الشّبه عند الغزالي بعد أن عرفه قال الآن علينا تفهيمه بالأمثلة، كذلك نجد ابن حزم يصرح بهذا في بعض المواضع، يقول إن هذه القضية أو هذا الاعتراض من أغمضِ الاعتراضات وأصعبها ويقول نحن نمثل ذلكَ ليعيننا على فهم هذا الموضع الدّقيق.
وهذا التعريف لا بدّ أن نضبطه بضوابط:
1. منها أن نلتزم بالمثال الواقعي، المأخوذ من الفقه، ونتجنب الأمثلة الافتراضية الموجودة بكثرة في كتب المتكلمين، ففي كتب الفقهاء نجد أمثلةً واقعية من كتاب الله ومن سنة رسول الله ، عند الحنفية من فتاوى محمد بن الحسن وفتاوى أبي يوسف وهي أمثلة حيّة تجعلك تفهم وتشعر بفائدة القاعدة، بينما تجد في كتب بعض المتكلمين أمثلة افتراضية، فتجد في التّخصيص قولهم كما لو قال تعالى: اقتلوا المشركين، فقال النّبي : إلا زيداً، هل الشريعة خالية من أمثلة للتّخصيص حتى نلجأ إلى مثل هذا المثال؟
وفي مسألة الأمر المعلق بشرطٍ مثل الآمدي (كما لو قال تعالى: إذا زالت الشمس فصلوا) هكذا قال، والمثال الصحيح قوله تعالى : (إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا)، فترك الموجود في القرآن وجاء بعبارة تشمئز منها النّفوس وهي ( كما لو قال الله تعالى)، وفي بعض الأحيان نجد نحو عبارة (قوله صوموا إلى الأبد)، هذه أمثلة أن تترك، ونرجع إلى كتب الخلاف، وأحكام القرآن، ونأخذ منها أمثلة واقعية.
2- وكذلك نحرص على تجديد المثال، في بحوثنا المعاصرة نجدد المثال، لا نبقى دائماً معَ أكرم بني زيد الطوال، ومع أمر السيد عبده، ومع النّبيذ والخمر. فلا يليق الآن أن نأتي إلى القياس ونقول يُقاس النّبيذ على الخمر، ونحن قد علمنا أن التّحريم بالنص والعموم وأنّ الخمر الذي حُرِم في المدينة هو خمر أغلبه صنع من التمر، وفي واقعنا أمثلة جديدة نحو الأوراق النّقدية التي قاسها جمهور العلماء على الذّهب والفضة.
والأمر نفسه يقال في التّفريع الفقهي، وإذا أردنا أن نفرق بين التمثيل والتفريع نقول التّمثيل يكون لمسائل نظرية، كالخبر المتواتر والآحاد، والتفريع يكون على القواعد فإذا اختلفنا في حجية شرع من قَبلنا، وإذا اختلفنا في بعض صور الاستصحاب، أو بعض صور عمل أهل المدينة، فالمثال الذي سنذكره يسمى تفريعا فالخلاف في المسألة الأصوليّة ينتج خلافاً في مسائل فقهية، ذكر التفريع مما يعيننا على التصوّر، ومما ينصح به في الدّراسات المعاصرة الآن لا تبقى دراساتنا نظرية. بل لابد من قرن المسائل الأصولية بأثرها في الفقه الإسلامي، أو أثرها في النّوازل المعاصرة.
3-هل نناقش المثال؟ هذه مسألة مهمة. فإذا كان المثال خطأ فنقول هذا مثال خطأ ولا نطيل في المناقشة، والتطويل في ذلك يخرجنا من البحث الأصولي إلى البحث الفقهي، لذلك قيلَ ليس من شأنِ الفضلاء المناقشة في المثال، فالمثال غير الصالح نستبدله، إذا كان المثال مشهور ننقده بإيجاز.
وهذا الضابط قد أخل به قديماً كثير من الحنفية، وأخل به الجويني في البرهان في باب التأويلات حيث ناقش الحنفية في مسائل فقهية، فهو مع انتهاجه طريقة المتكلمين ألا أنه لم يتخل شافعيته ، وقد نقده ابن السّمعاني وقال هذه المسائل موضوعها الفقه أو علم الخلاف ثم حاول أن يجعلها مختصرةً في بيان التّأويل الصّحيح والتّأويل الضّعيف.
تحرير محل النزاع
من الأشياء المهمة في تصوير المسائل تحرير محل النّزاع في المسائل الخلافية، فقد يكون هناك قولٌ عام وقولٌ خاص، فمن الخطأ أن نفرض الخلاف بينهما خارج تلك النقطة الخاصة، وقد يكونُ هناك رأيان لم يتواردا على محلٍ واحد، فتحرير محل النّزاع أمر مهمٌ جداً من شأنه أن يجعلنا لا نضيع أوقات في خلافات لفظية، ويجعلنا أيضاً نسقط بعض الأدلّة بمجرد الاطلاع عليها لكونها خارجة عن محل النزاع.
ونرجع في تحديد محل النزاع إلى علماء عرفوا بالعناية به، كالغزالي في المستصفى، والآمدي في الإحكام، والقرافي في شرح التنقيح، أكثر منهم اجتهاداً في هذا الباب بإبراز الفروق وهو الزركشي رحمه الله في البحر المحيط فهو يحرر محل النّزاع ويعقد فصولاً أو مباحث للفرق بين كذا وكذا والمسائل المتشابة، وممن اهتم بتحرير محل النزاع لكن بدرجة أقل القاضي أبو يعلى والباجي والجويني.
هل تحرير محل النزاع يكون منقولاً فقط؟ وهل كل ما نقله هؤلاء العلماء قد أصابوا فيه؟
لا، لا بدّ للباحث أن يكونَ له عقله المتحرر فيستفيد من كتب هؤلاء العلماء الذين أرشدنا إليهم ، ولكن إذا لم يجد عندهم، فلا بدّ أن يجتهد هو بنفسه في تحرير محل النزاع، وذلك ليس أمراً مستحيلاً أو صعباً، ويعيننا على تحرير محل النّزاع أمور:
تدقيق النّظر في عبارات المذاهب، والتدقيق في أدلّتها، فإذا لم أفهم المذهب جيداً، انظر في أدلته، والأدلة تدلُّ على المعنى الذي يريده صاحبه.
يعيينا أيضاً على تحرير محل النّزاع تقسيم المسائل إلى الصّور الموجودة والممكنة والمحتملة، مثلاُ عمل أهل المدينة فالإمام الغزالي رغم ما قلنا عنه لم يحرر محل النّزاع فيه بينما ابن تيمية رحمه الله قسم عمل أهل المدينة إلى ثلاثة مراتب، قال:
• منه ما هو سنة متواترة وهذا لا خلاف فيه.
• منه ما هو إجماعٌ قديم، إجماع الصّحابة قبل مقتل عثمان وهذا يدخل في الإجماع السكوتي، أغلب الصحابة كانوا في المدينة في ذلك الوقت لم يخرجوا منها.
• إجماع المتأخرين في مسائل اجتهادية، بمعنى إجماع الفقهاء السبعة وغيرهم والعمل الذي وجده الإمام مالك، وهذا لا يحتج به إلا بعض المغاربة، أما المحققون من الأصوليين وخاصةً العراقيون منهم لا يحتجون به وكذلك الأندلسيون.
تخصيص محل النّزاع في هذه الصّورة الأخيرة سيلغي خلافاً في قضايا كثيرة، عندما نقول هل يوجد من يخالف في السنة المتواترة؟ لا يوجد، لا أبو حنفية ولا الشافعي، كذلك الإجماع السكوتي وهذا يقول خالف فيه أبو حنيفة حسب تحرير شيخ الإسلام ابن تيمية، إذاً تقسيم المسألة يعيننا على أن نقف على محل النّزاع.
مما يساعدنا في تحرير محل النزاع تقسيم المباحث الأصولية وهذا مبحث خاص لم أرد أن أثيره حتى لا أطيل عليكم ولكن نشير إليه إشارة عارضة فنقول : تقسيم المسائل إلى صورها الموجودة وليس المحتملة مما يعين على التصور وعلى تحرير محل النزاع، لأنّ بعض الأصوليين غلو في التقسيمات وخاصةً المتكلمون منهم، لذلك عندما جئنا إلى كتاب أفعال الرسول لأبي شامة وجدناه يذكر في تعارض الأقوال من الأفعال ستين صورة، أكثرها افتراضي وجاء بعد ذلك الشّوكاني قال: الذي يمكن أن نجد له أمثلةً في السّنة أربعةَ عشر، إذاً نقسم المسائل إلى الصور الموجودة فعلاً، وليس ما يقدره العقل، بل إذا تتبعنا الأشياء التي يقدرها العقل سوف نضيع محل النّزاع ، والجري وراء المسائل الفرضية التي يقدرها العقل، ليس من شأنٍ الباحث في علمٍ عملي، علم أصول الفقه علمٌ نظري لكن المقصود منه العمل وليس مجرد بحوث نظرية عقلية جامدة ومجردة.
طرحت سؤالاً من قبل عن إصابة العلماء في تحريراتهم لمحل النزاع؟
والجواب أنهم قد يخطئون وقد يختلفون في تحرير محل النّزاع، من أسباب الخطأ في تحرير محل النّزاع:
عدم استيعاب المذاهب، آتي إلى مذهبين وأقارن بينهما وأقول اختلفوا في هذه الصّورة واتفقوا على الصورة الثانية لكن لو أواصل البحث أجد مذهباً ثالثاً خالف في الصورة الثانية، إذاً عدم استيعاب المذاهب قد يؤثر على تحرير محل النّزاع.
عدم التنبه لاختلاف الاصطلاح، وهذه نقطة سنتعرض لها بعد قليل، واختلاف الاصطلاح قد يوهمنا أنَّ ثمّة اختلافاً ولا اختلاف في ذلك الموضع، وقد يوهمنا أن المسألةَ لا نزاع فيها والنّزاع موجود، قضية اختلاف الاصطلاح هذه من الأشياء التي ينبغي للباحث في علم أصول الفقه أن يضعها في حسبانه عند جمع الأقوال وعند تصوير المسائل، وهي قضية مهمة جداً.
كثير من الأصوليين يحررون محل النّزاع بما نسميه الحكم بالظّن، وهذا تابع إلى عدم الرجوع إلى المصادر لنقل المذاهب، يعني يقول هذه المسألة لا يتصور فيها خلاف، أو يبعد أن يختلفوا في هذه الجزئية، ومنهم من يكون دقيقا فيقول لا أتصور، ويبعد، ومنهم من يتساهل في العبارة ويقول: لا خلاف في هذه القضية، وهنا يقع الخلل، ونحن لا بدّ لنا من التثبت، فالاعتماد على العلماء لا يعني أن نلغي عقولنا، أو شخصيتنا عند البحث.
اختلاف الاصطلاح
والمسألة الأخيرة في قضية تصور المسائل هي قضية اختلاف الاصطلاح، فهذا العلم ألف فيه الشافعي، ثمَّ ألف فيه أئمة من المذاهب الأربعة، وهؤلاء منهم من كان في العراق ومنهم من كان في مصر ومنهم من كان في الحجاز، لا شكَّ أن لغة العلم منشؤها لغوي ثمَّ تتطور ويكون بينها مصطلحات متفقٌ عليها ومصطلحات مختلفٌ فيها، ونحنُ إذا تعاملنا مع هذه الكتب التي أُلفت في أمكنة مختلفة وفي أزمنةٍ مختلفة، وأصحابها من مذاهب فقهية مختلفة ومناهج أصولية مختلفة، فلا بدّ أن ننتبه إلى وجود اختلافات في الاصطلاح، لكن ما المقصود بالاصطلاح؟
ما معنى الاصطلاح الذي نختلف فيه؟
1-لا نتحدث عن التعريف الحدود أو العبارات التي تنقل، لكن نتكلم عن الألقاب، أسماء المعاني قد يكون شيٌ واحد يسمى بألقاب مختلفة، مسميات مختلفة، عناوين مختلفة، مثلاً: ما نسميه في عصرنا المصلحة المرسلة، ستجده في كتب الشافعية باسم الاستدلال، أو الاستدلال المرسل، أو الاستصلاح عند المالكية، أو القياس المرسل، هل القياس المرسل والاستدلال والمصلحة أشياء مختلفة؟ هي تسميات لشيء واحد، الباحث قد يضل عن المسألة وهو ينظرُ في الفهرس بسبب عدم تنبهه باختلاف الاصطلاح، إذاً شيءٌ واحد لديه عدة أسماء.
2-النوع الآخر لاختلاف الاصطلاح: لقبٌ واحد يسمى به أشياء مختلفة، أقرب مثال: قياس الشبه، تجد بعض العلماء يقول قياس الشبه باطل ولا يعتبر وبعضهم يقول: قياس الشبه هو أغلبُ اقيسة الفقهاء، فهل بين الرأيين اختلاف؟
لا، قياس الشبه يطلق على الشبه المحض الذي يصفه الآخرون بالطرد، الوصف الطردي لا آثار له، الشبه في الصورة كالشبه بين الحمار والحصان لا يؤثر في الأحكام، فهذا يسميه بعضهم قياس شبه ثم يرده.
بينما يقصد العالم الآخر بالشبه: الرابط بين الأصل والفرع الذي ليس علّة، ولكن وصف يستلزم العلّة، وهذا يسميه بعضهم قياس الدلالة حتى لا يختلط بالمعنى الأول، إذاً نحن أمام تسميةٌ واحدة أطلقت على شيئين متضادين، هذا أطلقه على الطرد الذي لا يفيد، وهذا أطلقه على قياس الدلالة، ولا بدّ أن نتنبه لمثل هذه الأشياء التي تختلفُ من كتاب إلى كتابٍ آخر.
أسباب اختلاف الاصطلاح:
1. اصطلاح الحنفية مقابل الجمهور، إذا درسنا موضوع دلالات الألفاظ، الجمهور يقسمون المنطوق والمفهوم، منطوق صريح وغير صريح كما قسمه ابن الحاجب، ومفهوم موافقة ومخالفة ومفهوم المخالفة إلى عدّة صور، وهناك من أدخل في المنطوق الصريح دلالات الاقتضاء والإيماء، هذه هي المصطلحات الرائجة، نذهب إلى كتب فالأحناف نجد تقسيماً آخر، التّقسيمات الرُباعية التي ذكرها الإمام الدّبوسي، وما زالت معتمدة إلى عصرنا هذا.
فالنصّ عندنا لا يحتمل التّأويل، وعند الحنفية هذا النصّ الذي لا يحتمل التّأويل لا يسمونه نصاً، ويقسمونه إلى محكم ومفسر، والذي نسميه نحن الظّاهر في اصطلاح الجمهور وهو الذي يحتمل التّأويل يقسمه الحنفية إلى قسمين نصّ وظاهر، الذي لا ينتبه إلى اختلاف الاصطلاحات بين مذهب الحنفية، وبين ما اعتمده بقية الفقهاء لا شكّ أنّ بحثه سيكون ناقصاً وفيه أخطاء كبيرة.
2. اختلاف الفقهاء جميعاً مع المتكلمين، مثال: الأصل المقيس عليه عند الفقهاء هو الخمر، أما عندَ المتكلمين هو النصّ الذي جاء به تحريم الخمر، الدليل عند الفقهاء سواء أكان ظنياً أم قطعياً ، وعند المتكلمين هو القطعي فقط، أما الظني فيسمى أمارةً.
3. واختلاف المتقدمين والمتأخرين، فالنسخ مثلا في كلام السلف يعمُ معاني أخرى غير إزالة الحكم بعد ثبوته يعم التّخصيص، ويعمُ التّقييد، ويعم التّفسير. ولفظ الكراهة قد يراد به التحريم عند المتقدمين وهذا يذكر في أصول الفقه ولكن يخص به الحنفية، ولكنه موجود حتى في كلام الشافعي، ومالك.
طرح بعض الباحثين المعاصرين دعوةً إلى توحيد الاصطلاحات، فهل هذا ممكن؟
أنا في اعتقادي أنَّه غير ممكن، لا يمكن أن نجمع كل الباحثين وكل العلماء المعاصرين ونقول لهم استعملوا هذا الاصطلاح ولا تستعملوا هذا الاصطلاح، فهذه الاصطلاحات هي لغات وتوحيد اللغات محال، ثم هل عندما نوحد الاصطلاح سنلغي كتب التّراث؟ لا... بل على طلبتنا أن يرتبطوا بكتب القدماء وجميعاً، إذاً كان هناك اختلاف في الاصطلاح يؤدي إلى الاضطراب الواجب علينا نعلم اصطلاحاً معينا يكون هو المعلم عندهم، وننبه إلى وجود اصطلاحات أخرى حتى يتمكنوا من الاستفادة من جميع كتب المتقدمين من مختلف المذاهب.
هناك ظاهرة التّخطئة في الاصطلاح عند بعض الباحثين ووجدت عند بعض المتقدمين ، وهذا خطأ، فالاصطلاحات لغات وشأننا فيها أن نختار لا أن نرجح، لأنَّ ترجيحك لن يُلغيَ غيرك، ولذلك قالوا: لا مشاحة في الاصطلاح، إذا بيّنَ المعنى، إلا في حالاتٍ يجب علينا أن نرجح وذلك حين يحمل الاصطلاح أحكاما وهذه الأحكام فيها أخطاء، مثلاً يقول بعضهم: المسائل تنقسم إلى أصول وفروع ويقصد بالفروع الفقه ويقول في ضابط إنه القطعية والظنية ، فهل مسائل الفقه كلها ظنيّة؟ إن في الموجود في كتب الفقه أمور معلومة من الدّين بالضّرورة، فهذا التّقسيم أوهم غلطاً، وأصول الدين هي مسائل العقيدة، فهل مسائل العقيدة كلها اتفاقية وقطعية ؟ وفيها التكفير أو إلى غير ذلك؟ ... في مسائل العقيدة مسائل جُزئية جداً، نحو هل رأى النّبي ربه في ليلة الإسراء والمعراج؟ فهذه مسألة اختلف فيها أصحاب النّبي ولا ينبي عليها لا تأثيم ولا تكفير.
ومثل هذه التخطئة ليست تخطئة في الاصطلاح ولكن تخطئة للأحكام التي تنطوي تحته، نخطئ من استعمل اصطلاحاً غريباً وفيه إيهام، الذي حضرني مثالٌ واحد يقول: هذا حديثٌ حسن، قلت له: هذا موضوع، قال: قصدت حسن لفظه، لا يجوز لك يا أخي، لأنَّ مثل هذا التّعبير فيه إيهام لمن لا يعرف.
إذاً نخطئ في حالتين:
إذا كان الاصطلاح موهما .
أو إذا كان فيه أحكام شرعية، لأنَّ التخطئة في الأحكام الشرعية جائزة، أما في اللغة والتّعبير، فهذا غير جائز.
ترتيب الموضوعات الأصولية
الشيء المتمم لحسن التّصوير وهو ترتيبُ الموضوعات الأصولية، وقد اعتنى عُلماؤنا منذ القديم بحسن العرض والترتيب للمسائل الأصولية، لأنّها تعيننا في الفهم، ومن المسائل المتعلقة بالتّرتيب:
1. التّصور الكلّي للكتاب، فنجد الإمام الشافعي في مقدمته في الرّسالة قدم مقدمةً كأنها مقدمة معاصرة فيها إشكالية وفيها تمهيد، وفي الأخير ختمها بالخطّة التي سيسير عليها، أعطانا التّصور وبرهن على هذه الخطة، أي كيف أصبح البحث في الكتاب والسّنة والإجماع والقياس
والغزالي في مقدمة المستصفى لما جعل أصول الفقه أربعة أقطاب أحكام وأدلة ودلالات واجتهاد كذلك أعطانا التّصور الكلي، فهذا الشيء مهم جداً للباحث ليكون متحكماً في جزئيات بحثه.
2. كذلك العناية بالتّسلسل المنطقي للبحوث، هذا نجده جلياً في الرّسالة للشافعي والعلماء بعد الشافعي وجدناهم ينتقدون من يخالف الترتيب المنطقي، ينتقدون من يحيل إلى شيء سيأتي، فقرروا أن الإحالة تكون إلى شيءٍ سبق لا إلى شيءٍ سيأتي، الآمدي مثلاً تكلم في مباحث العموم عن عموم المقتضى، وهو لم يُعرف دلالة الاقتضاء بعد، ولا يزالُ العلماء ينقدون الغزالي رغم اجتهاده في التّرتيب، على الإخلال بهذا التّرتيب المنطقي للبحوث، ونحن في بحوثنا الآن نتوقع الانتقاد وقبل أن نتوقع الانتقاد نحاول أن نقنع أنفسنا بمنطقية هذا التّرتيب الذي سنسلكه.
3. من الأشياء التي تعيننا على هذا التّسلسل المنطقي وتجنبنا الإحالة للمعدوم أن نضع مقدمات بين يدي كل فصل، بين يدي كل مبحث، هناك من درس الرّسالة للشّافعي وقال إن فيها تكراراً للمسائل، وعندما ندقّق في تلك المسائل المشار إليها نجد أنَّ الشافعي رحمه الله لم يكن يكرر المسائل ولكن كان يجعل تمهيدات جامعة قبل أن يعود إلى المسائل بالتفصيل ، فيذكر في لسان العرب خمس مسائل يشرحها إجمالاً، ثمّ يفصلها واحدةً واحدةً، فمن ينتبه إلى أن هذه المسألة سبق ذكرها يقول: قد كرر، وهو في الحقيقة لم يكن يكرر، وهذا أمرٌ مطردٌ في الرسالةِ كلها.
عندما درست الرسالة للشافعي قلت إن خطّة الرسالة كانت مفصلة في ذهن الإمام الشافعي، وكما نقول بعبارة معاصرة كانت مشجرة، وكُلها آخذٌ بعضها ببعض، وكل عنصر يتفرع عن عنصرٍ آخر، وما دام الإمام الذي وضع هذا العلم سلك هذا المنهج فالذين جاؤوا من بعده حرصوا عليه.
ونحن في بحوثنا علينا تحسين التّصور لأنفسنا أولاً ولمن يقرأُ بحوثنا ولمن يناقشها ولمن يفيدُ منها ثانيا، لا بدّ أن نحرص على هذه القضية المنهجية.
وهنا افتح قوسا مهما : لماذا نمثل بالشافعي على وجه الخصوص؟ الجواب لنعلم أنّ القضايا المنهجية التي ربما نأخذها من عندِ غيرنا من الغربيين هي في الحقيقة موجودة عندنا، ومن علماء الأصول وعلماء الحديث، وتراثنا غني جداً بالقضايا المنهجية ونحن في غنى عمّا يأتينا من الغرب، قد ينبهوننا إلى أشياء فنظن أنها من مبتكراتهم لكن بالرجوع إلى تراثنا نجد تلك الأشياء منه أخذت .