على نهج السلف 2 :دعوى "مصلحة الدعوة".
د. يزيد حمزاوي رحمه الله.
صحافة اليرموك العدد 289
السبت 21 شوال ١٤١٤_ه 2 نيسان ١٩٩٤
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أما بعد:
ففي الحلقة الأولى من هذا المقال كنا تطرقنا إلى استحالة الوحدة بين الملل والنِّحل المتنوعة على ساحة الدعوة إلى الله، ما لم تكن عقيدتها صحيحة و منهجها سليما، يوافق منهج أهل السنة و الجماعة، دون ابتداع في التوحيد أو شطط في المنهج و الفكر، إلا إذا كان من باب دعوى "مصلحة الدعوة " نضع كلمة التوحيد جانبا ونلهث وراء سراب "توحيد الكلمة" التي تناقض المنقول وتخالف المعقول و يكذبها تاريخنا الطويل مع هذه الملل التي اشرنا إلى بعضها في المقال السابق.
وقد أخذت "مصلحة الدعوة" بشكل واضح في هذا العصر مكان مقولة "الغاية تبرر الوسيلة" عند الكثير من العاملين للإسلام، ولغاية توحيد الكلمة لأن هذه هي المصلحة المتوهَّمة أو المزعومة يقوم البعض بمخالفة النصوص الثابتة، والتغاضي عن أخطاء دعوية خطيرة، والدعوة إلى وحدةٍ مع أهل البدعة والدراويش و أصحاب الفكر المعوج، مجاراة العوام و الإغضاء عن شروط العقيدة والشريعة، وهذا في الحقيقة انحراف في المنهج الدعوي وجهل بالنصوص وتجاهل للتاريخ والواقع.
لا ننكر أن مبدأ المصلحة في الإسلام قاعدة أخذ بها الرسول- صلى الله عليه وسلم- و بيَّنها العلماء في كتب الفقه والأصول ولكن ضمن حدود وقيود أهمها عدم مصادمة العقيدة، وهذا عكس ما نشاهده في دعوى"مصلحة الدعوة" في زمننا، التي أفرزت عدة زلات وأخطاء خطيرة في الدعوة والمنهج كان منها:
غياب مفهوم "أهل السنة" فالمنادون "بتوحيد الكلمة" لم يعودوا يدافعون عن بيضة الإسلام من الملل والجماعات المنحرفة التي تنخر في جسم الإسلام من الداخل، لأن هذا من مصلحة الدعوة، لذلك غاب في قاموسهم شيء اسمه البدعة وأهل البدعة، فهم لا يطيقون سماع هذه الأوصاف التي تطلَق على أهل البدعة لأنها زيادة في تفكيك الصف، وتشتيت الكلمة، ولما غاب مفهوم أهل البدعة، لم يعد لمفهوم أهل السنة مبرر وجود، فالمهم أننا كلنا مسلمون بدون أوصاف أخرى، ولو كان البعض قد كفر من وقت بعيد وتزندق من زمن غير قريب، متجاهلين أن السنة هي أساس الإتحاد و الائتلاف، والبدعة مادة الاختلاف والافتراق وعامل تصدع الصفوف ومطية الفشل والإخفاق.
وما أحسن قول شيخ الإسلام، ابن تيمية -رحمه الله- : "البدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة فيقال: أهل السنة والجماعة وكما يقال أهل البدعة والفرقة".
المسألة الثانية، إن السعي إلى توحيد الكلمة دون تمحيص وتصفية وتنقية للصف الإسلامي جعل هذا الصف "موحَّدا !" شكلا وظاهرا، ومهلهلا مضمونا و باطنا، يوشك على التداعي في أية فتنة أو هزة، وليس ما يجري في أفغانستان علينا ببعيد، فقد توحدت! الطوائف في السابق من سني و بدعي ومُوَالٍ للشرق والغرب... وبعد الانتصار حدث الانتحار، فالكل ينهش في الثاني حتى بتنا أضحوكة العصر.
ومثل ذلك يحدث في تجميع الناس وحشد الأصوات في انتخابات ما، وذلك بعد السكوت عن موبقاتهم وكبائرهم، ثم إغراقهم بالأماني والوعود المادية والدنيوية، كتوفير الطعام وإصلاح الطرق... ولمّا يعجز لسبب ما عن تحقيق تلك الوعود يهجر الإسلام وينتخب غيره، لأن الناس إنما انتخبوا الوعود الدنيوية ولم ينتخبوا عقيدة وشريعة أصحاب تلك الوعود.
المسالة الثالثة، وقوع ظلم شديد على أهل السنة الغيورين على الدين، فقد رمتهم الطوائف المنحرفة بسهام حادة، فأضحت الطائفة المنصورة التي تدعو إلى كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة متهمة بتفريق الصفوف وبث الفرقة والخلاف و زعزعة الجدار الواحد!
فإذا أنكرت الشرك بالله في الأضرحة أخرجت القبوريين والدراويش من الوحدة.
وإذا أنكرت تعطيل الأسماء والصفات والعبث بالعقيدة أخرجت الأشاعرة والمعطلة من الوحدة.
وإذا أنكرت سب الصحابة.. أخرجت المتشيعة من الوحدة.
وإذا دعوت إلى الالتزام بالدليل الشرعي أخرجت المقلدة و متعصبة المذاهب من الوحدة.
وإذا أنكرت دعوى "مصلحة الدعوة " في مسألة ما أخرجت أصحابها من الوحدة.
حتى على مستوى السنن البسيطة، كالزي الإسلامي وطريقة الأكل...إذا طبقتها في نفسك، قالوا فلان يخالف الناس ويفرِّقهم! أمّا إذا دعوت لها ودافعت عنها فقد ارتكبت "محرَّما دعويا" فمصلحة الدعوة، وقل إن شئت "الغاية تبرر الوسيلة " تلزمك بإخفاء الاختلاف و ستر الخلاف، فمصلحة الدعوة إذا دعت إلى الوحدة مع إبليس فليس لك إلا السمع والطاعة.
وأريد في الختام أن أذكر كلاما جميلا لسيد قطب -رحمه الله- من تفسير الظلال، عند تفسيره سورة الحج يقول: «ولقد تدفع الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات -بعد الرسل- والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها... إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة يحسبونه هم ليس أصيلا فيها ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصموها، ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة، ولا مع منهج الدعوة المستقيم، وذلك حرصا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها... ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج دون انحراف قليل أو كثير، أمّا النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا الله ولا يجوز أن يحسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج، إنما يجب أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق، وأن يدَعوا نتائج هذه الاستقامة لله، ولن تكون إلا خيرا في نهاية المطاف» ثم يقول «إن كلمة "مصلحة الدعوة" يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات لأنها مزَلَّة ومدخل للشيطان يأتيهم منه حين يعزّ عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص! ولقد تتحول "مصلحة الدعوة" إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة وينسون معه منهج الدعوة الأصيل!»
وفي المقال القادم إن شاء الله سيكون موضوعنا، السبيل الصحيح إلى الوحدة، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.