عوام النصارى يُعلَّمون لا يناظَرون
د: يزيد حمزاوي _رحمه الله_
إذا كان قساوسة الكنائس لا يدري أحدهم عن كتابه المقدس إلا ما يقيم به بعض الطقوس الليتورجيا والتعبدية، أو إسقاط واجب الوعظ في المناسبات، فما بالك بعوام النصارى أو المتنصرين المخدوعين!، فهؤلاء يجهلون أبجديات النصرانية فضلا عن علوم اللاهوت والخريستولوجيا والنقد النصي العالي والنازل، ودراسة المخطوطات والبرديات والبحوث الكتابية والدراسات المقارنة، والتفسير والايرمونيتيكا والباترولوجيا.. إلى آخرها من العلوم ذات العلاقة: كالاركيولوجيا والانثروبولوجيا الدينية والتاريخ الديني العام والفِرَق والطوائف...
سأضرب مثالا من وحي تجربتي، فقد ناقشت العشرات بل المئات من عوام النصارى...لم أكد أخرج بنتيجة واحدة معهم... في إحدى الحالات، لما كنت طالبا بقسم الإعلام والاتصال قبل ربع قرن في الأردن، كانت لي نقاشات مع شابة إعلامية أردنية "مارينا" من الروم الارتدوكس، كانت ذكية وجميلة، لذا كانت تظن نفسها على الحق المبين، وكنت أراها تمارس نوعا من السطوة على بعض المسلمين والمسلمات في حديثها ونقاشها، فالجمال يزيد أصحابه زهوا بما يؤمنون به، ويظنون أنفسهم على الحق أكثر من الآخرين، لذا أشرت إلى هذه النقطة، لأن بعض المعقدين نفسيا من الناس يعتقدون أنه لا يمكن أن يكون الغربيون بجمالهم وأناقتهم وتقدمهم على خطأ وباطل...!
لما جلست معي أول ما تعارفنا لمناقشة النصرانية والإسلام، قالت: "أنا أنشط في إحدى الكنائس بعمّان، وأستطيع أن أجيب على اعتراضاتك بدون أدنى مشكلة"، كانت واثقة بنفسها إلى حد التخمة...لكن لما سحقتها بأدلة كالجبال على فساد معتقدها هدأت وتواضعت، لكن ما استسلمت، فأرسلتني إلى قسيسها في منطقة العبدلي بعمّان... زرته فحاورته مرارا فلم يكن مستواه بأحسن من التي استغاثت به.
أما مارينا، فقد درسنا سويا أربع سنوات، كنا نلتقي مع فريق المدربين والإعلاميين كل يوم خميس، في قاعة تحرير صحيفة اليرموك، وتتخلل بيننا عند جنبات القاعة نقاشات دينية جادة وحادة...، ذات مرة كنت أجلس على الحاسوب فقدمت إلى المكان وهي تعلوها ابتسامة خبيثة وتغمز بعينيها وتطعن بلسانها في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة واشتهائه للنساء وارتباطه بأكثر من زوجة.
فقلت في نفسي: على نفسها جنت براقش، لم أكن لأسكت أمام هذه الإهانة، التي يحفظها النصارى والملحدون عن ظهر قلب، ويرددونها في كل مناسبة لإحراج المسلمين.. فانطلقت في هجوم مضاد ومعاكس يجتث الشرف من كتابها المقدس، وينزع العفة عن النصرانية وكنيستها وسَدَنَتِها... فبدأت بسؤالها عن نسب المسيح المتضارب بين الإصحاح الأول بإنجيل متى والإصحاح الثالث بإنجيل لوقا، فرأيت فمها قد فغر ولم تنبس ببنت شفة، ولا تلوي على شيء، ثم ثنيت بسلسلة سبع جدات للمسيح الشبقات الشهوانيات الزواني، اللائي فرّجن أرجلهن لكل عابر ـ على حد تعبير الكتاب المقدس وليس تعبيري أنا ـ فأنا بريء من كل كلمة تسيء إلى أعراض الناس، خصوصا إذا كانوا أنبياء أو آلهة متجسدة!!
كانت سلسلة نسب المسيح مسلسلة بالعاهرات التي لا تشرف إبليس، فضلا عن أن تشرف الإله المتجسد يسوع، ابتداء من بنات لوط إلى "بتشبع" زوجة داود، مرورا ب"ليىئة" زوجة يعقوب ثم ثامار وراعوث وراحاب...
ولم أكن أسرد عليها الوقائع سردا مملا بإملاء نص أو مجرد قرائته، لقد قابلت لمزها بالتصريح، وواجهت غمزها بالاسترسال دون مواربة ولا مراوغة، وإنما أعرض الحادث المفضوح تلو الآخر كأنه شريط فيديو تراه أمامها لتدرك هول الفاجعة بتفاصيلها المقززة... كانت تمسك برأسها قبل أن ينفجر، ويحمر وجهها خجلا من وحي ربها!!!
هذه الخاصية في تصوير فضائح الكتاب المقدس ردا على الظالمين، تكون فقط عند الضرورة الدعوية القصوى، وليس للتلذذ بها والاستمتاع بوساختها، لقد سبب لي بعدها هذا النهج مشكلات في دروس ومحاضرات المساجد، فقد كان ـ مثلا ـ شيخنا يوسف بن عاطي يترجاني ألا أغوص في التفاصيل عند إلقاء درس في مسجده، ويقول لي: "أمي وأخواتي كلهن في المسجد، أرجوك لا تحرجني معهن"، مع أنني كنت أتناول ببراءة الأطفال الصغار قصصا مقدسة مباركة لديانة تدعي أن كل كتابها موحى به من الله، وأن تلك المغامرات الجنسية والشاذة ما هي إلا برنامج تربوي تأديبي أخلاقي راق لأتباع الكنيسة، على حد قول بولس في العهد الجديد، بتيموثاوس الثانية 3: 16 (كل الكتاب موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي هو في البر).
كما كان شيخنا محمد حاج عيسى، الذي حضر بعض محاضراتي ينبهني إلى أنني "ألقي تلك المحاضرات بأسلوب متحمس يجعل الحاضرين يصدقون وقعوها ويعتبرونها حقا..."، وهو يعلم أن النائحة الثكلى ليست كالمستأجرة، فالكلمات التي تخرج من القلب ليست كتلك التي يلتقطها المحاضر من هنا وهناك قبل دقائق من موعد إفراغها على آذان المستمعين...!
هذا هو الفرق بين الإعلامي والشيخ... فيستطيع الأول أن يقول ما يتحرج من قوله الثاني، عند خوض معارك الدعوة وحروب الطعن والضرب تحت الحزام... أسأل الله، كما أمد مشايخنا بالعلم والسمت والأدب الرفيع، أن يمدهم بالصبر على أشكالي ويرزقهم طول البال لتحمل أمثالي...
توقيع: د يزيد حمزاوي