الصحافة العلمانية والثوابت الوطنية
لم يكن من المتوقع أن تصل الوقاحة بأطفال الصحافة العلمانية في الجزائر إلى هذا الحد من العدوانية اللفظية والكراهية المسعورة اتجاه الدين الإسلامي، فلقد تعود العلمانيون واللاّدينيون في هذه البلاد، أن ينتقدوا الإسلاميين على توجهاتهم المختلفة، وأن يغمزوا الإسلام من بعيد بكلمات مجازية أو كنايات مخفية.
لكن تلك مرحلة مضت وها هم الآن يتخطون عتبة مرحلة جديدة دعاها بعضهم "مرحلة كسر التابوهات" وأولهما "تابو الإسلام" وإذا كانت العاطفة الدينية للجزائريين المسلمين قد جاشت بقوة أبان الاستعمار الصليبي الفرنسي، دفاعا عن الإسلام، فإن تلك العاطفة بدأت تخبو وتخبو حتى كادت تنطفئ بعد الاستقلال!
فهل غابت تلك العاطفة لتيقنها أن الإسلام بات في مأمن بين أبنائه ولإحساسها بأن العدوان الخارجي، قد ولى إلى غير رجعة؟ فإن كان الأمر كذلك، فيا لها من غفلة! ويا ويحها من غلطة!
ألم يدري المسلمون في الجزائر أن الاستعمار الصليبي خرج بجحافله العسكرية وما خرجت جحافله الفكرية بعد؟ ألم يعلم المسلمون أن الصليبية الفرنسية التي غادرت الوطن من الباب السياسي، قد عادت إليه من نوافذ الفكر والثقافة؟ بل ألم يفهم المسلمون في الجزائر أن الآباء البيض الذين خسروا معركة التنصير بالأمس قد تركوا أبناء من جلدتنا يتولون بدلهم معركة اليوم؟ لقد رأينا بأعيننا طوابر جنود الاستعمار وهي تودع موانئ البلاد ومطاراتها، لكن الطابور الخامس استلم مقاليد الأمور في الدوائر الثقافية والإعلامية في الداخل، في عملية تكتيكية استعاظت الصليبية فيها بالكاردينالات الإعلامية عن الكاردينال لافيجري، والمتغربين الصحفيين عن المستشرق ماسينيون...
والمدهش في الأمر أن الصليبية بالأمس لم تكن ترضى عن تنصير المسلمين الجزائريين بديلا، لكنها على أبواب الألفية الثالثة، فهي تريد فقط أن يترك المسلمون عقيدتهم ليتحولوا إلى كل شيء خلا الإسلام.
لذلك نرى الصحافة العلمانية ترفع لواء الشيوعية والفرنكوفيلية والإلحاد والنصرانية والوجودية والهيبية والإباحية والعبثية والعدمية ... الخ من أفكار الضياع التي انتهت بأصحابها إلى الحيرة والجنون والانتحار، والفوضى الاجتماعية والخلل النفسي والقلاقل الاقتصادية والثورات السياسية بعد أن عاشوا مرارة تلك الأفكار وخيبة وفشل تلك الوساوس.
وحتى لا تبقى في العموميات نذكر هنا بعض مظاهر تلك الهجمة الإعلامية على الثوابت الوطنية، تلك الثوابت كالإسلام والعروبة ووحدة القيم التي يصفها أحد كاردينالات الصحافة بالكلمات الممجوجة والمفاهيم التافهة، بينما يرى تغريبي إعلامي أن الثوابت الوطنية التي نثرثر حولها هي مشروع الموت والتخلف، وأن المشروع الغربي هو مشروع الحياة والتقدم ويقول "إذا كان تبني الأفكار التحريرية والتنويرية والتقدمية للرئيس الفرنسي شيراك وكلنتون وغيرهم من الغربيين هو دفاع عن حزب فرنسا، فنقول مرحبا بحزب فرنسا". وكم كنت أتمنى أن يكون العقيد عميروش حيا بيننا اليوم لينكل بهؤلاء كما نكل بالأمس بالقومية والحركة وأنصار حزب فرنسا، وبكل من تسول له نفسه العبث بالثوابت الوطنية، واليوم مع غياب عميروش - رحمه الله - فأفراخ حزب فرنسا الصحفيون لا يملكون الشجاعة الكافية للاعتداء على الثوابت إلا بعدما تأتيهم الضمانات بالحماية من الخارج والداخل، وإذا ما ضعفت خفافيش الظل في الداخل عن حمايتهم أو تخلى عنهم أسيادهم لسبب ما من وراء البحر، سرعان ما يتخلون عن هجماتهم لينزووا في زوايا النفاق الإعلامي أو الصمت الميت على أحسن تقدير.
وإن أغرب ما في الصحافة العلمانية أنها تريد إحلال الحرية وقوانين الجمهورية والديمقراطية بدل الثوابت الوطنية، وهذا كله في حسابات نظرية، إذ أثبتت التجربة أنهم أول من يخالف قوانين الجمهورية التي تحفاظ على الثوابت الوطنية كالدستور، وقانون الإعلام، وإن هذه الصحافة التي تزعم الحرية هي أول من يزهق روحها ويدعو الخفافيش للتدخل لوقف حرية المحافظين على الثوابت، وإن هذه الصحافة التي تتغنى بالديمقراطية هي أول من أقصى الديمقراطية لما تقصيهم هي في السباق نحو السلطة.
ألم يقصوا الديمقراطية وانقلبوا في ليلة وضحاها إلى أنصار الدكتاتورية وأعوان الاستبداد حتى أنهم ما خجلوا أن وضعوا الشعب الذي أقصاهم بالديمقراطية في خانة القصور الفكري وعدم
النضج السياسي!؟
وخاطبوا الشعب على صفحات الجرائد الحاقدة على الثوابت بلسان حالهم وقالهم فكان مما قالوا له "أنت شعب غبي لا تحسن الاختيار، أنت شعب جاهل لا تعرف ما تفعل، أنت شعب ساذج لا تدرك ما تعمل، أنت شعب عاطفي لا تعقل بعد، فأنت في حكم الصبي والمجنون فلست مؤهلا للتصويت إلا أن تكون نتائجه لصالحنا الديمقراطية أن يحكم العلمانيون، والجمهورية أن يتسلط اللادينيون، ونحن الديمقراطيون الجمهوريون من يعرف مصلحة الشعب ونحن من يملك الوصاية على الشعب، ونحن من لنا الحق أن نرعى قطيع الغنم الجزائري ونأخذ بيده إلى بر الأمان، حيث ينال رضا «ماما فرنسا» و «بابا الفاتيكان» و «العم سام» و«أبناء عمنا اليهود».
هكذا خاطبوه وبهذه الكلمات أهانوه، وإذا ما علمنا هذه الحقيقة علمنا لزاما أن الثوابت الوطنية شطر خارج الوطن، وأن ثوابتنا التي حافظ عليها الجزائريون منذ قرون وخلدها بيان أول نوفمبر وجاهد من أجلها المجاهدون واستشهد في سبيلها الشهداء هي ثوابت ملغية، فثوابت الصحافة العلمانية اليوم هي الثوابت التي تقررها ثورة 1789 الفرنسية وليس ثورة 1954 الجزائرية، والثوابت الوطنية هي تلك التي يشرعها الرئيس الأمريكي جفرسون، الذي اكتشفته الصحافة العلمانية مؤخرا وليست الثوابت تلك التي يتغنى بها تحالف «المحافظين والأصوليين»، كما يكررون، وباختصار فالثوابت الوطنية يقررها الجزائريون فقط، ولا جزائريين إلا تلك الشرذمة الإعلامية التي تسود كل صباح ومساء الوطن بحرية فرنكوفونية مقررة أن الإسلام سبب مشاكلنا والحل في اللادين، وأن العربية سبب تخلفنا والملاذ باللغة الفرنسية والأمازيغية موجة تمتطي وسلاح ذو حدين. ووحدة التراب مرحلة مؤقتة لحين الإعلان عن تقسيم الجزائر إلى فيدراليات وهي آخر التابوهات التي ستتولى الصحافة الفرنكوشيوعية كسرها بعدما مهد لذلك بعض السياسيين قبل شهور.
هذه باختصار معالم الثوابت الصحفية العلمانية التي تريد إلحاق الأمة الجزائرية بالمستعمر، وإذا لم يتنبه الوطنيون لهذا الفيروس فسيكون مصير الجزائر كمصير دول انقرضت أو دول تعيش تحت رحمة الغرب الذي لا يرحم.
يزيد حمزاوي
الصحافة العلمانية و الثوابت الوطنية ( ج الأحرار - ع 437 - ص 21 - الخميس 5 أوت 1999