التيه والمخرج
"التيه" عقوبة ربانية تصاب بها المجتمعات الخارجة عن الطاعة والتي لا تشكر النعمة، ومن موجباتها أن يصاب المجتمع بأمراض مستعصية العلاج، كالكسل والجبن والبخل إذا استحكمت في النفوس...ولقد عاقب الله تعالى بني إسرائيل بهذه العقوبة لما رفضوا دخول الأرض المقدسة رغم تذكيرهم بنعم الله تعالى السابقة وشهودهم لنصرهم بمعجزات خارقة، فقالوا :" إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ"، فأبدوا عدم استعدادهم للبذل ولا للتضحية، وأصروا على الرفض رغم مجيء الوعد بالنصر:"ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ"، وقالوا لموسى كلاما أشنع من سابقه :" فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ" فهنا استحقوا العقوبة الربانية القاسية:" قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ" إنها عقوبة التيه والضلال في الأرض...حيث يسعون للخروج فلا يهتدون للمنفذ..يسيرون الأيام والليالي فيجدون أنفسهم في المكان نفسه ..يطلبون الخروج من الصحراء لكنهم لما سلبوا الهدى يوغلون في أعماقها، وفي تعليل تحديد مدة هذا التيه يقول السعدي رحمه: "ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد، والذل المانع من السعادة" وقد استشكل بعض المفسرين بقاء موسى وهارون عليهما السلام مع التائهين المعاقبين مع أنهما لم يقترفا معصية قومهما؛ والحق أن لا إشكال في ذلك لأن بقاءهما معهم إنما كان من أجل تحقيق الغاية المرجوة وهي تربية الناشئة الجديدة على خلاف خصال آبائهم، وإن كان ثمة تعب زائد فهو يزيد في درجة المصلحين، فضلا عن أن أعظم ما في عقوبة التيه هو التعب النفسي، والأنبياء لما كانوا على علم بها وبسببها ومدتها لم ينلهم منها ما نال قومهم.
وتيه أمتنا غير تيه بني إسرائيل ومدته غير مدته ..ولعلها طالت ..ولكن لابد أن تكون له نهاية .. قال ابن باديس رحمه الله:" لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه والعذاب المنوَّع الذي نذوقه ونقاسيه: إلا بالرجوع إلى القرآن: إلى علمه وهديه، وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه، والتفقه فيه وفي السنة النبوية وشرحه وبيانه، والاستعانة على ذلك بإخلاص القصد، وصحة الفهم، والاعتضاد بأنظار العلماء الراسخين، والاهتداء بهديهم في الفهم عن رب العالمين. وهذا أمر قريب على من قربه الله عليه، ميسر على من توكل على الله فيه".