الاثنين 2 ربيع الأول 1431

خطبة العيد خطبتان أم خطبة واحدة

كتبه 
قيم الموضوع
(2 أصوات)

   إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله ، أما بعد :

فإن مسألة صلاة العيد ، هل يشرع فيها خطبة واحدة أم خطبتان؟ مسألة من المسائل التي احتدم فيها الخلاف، وكثر حولها الكلام في هذه الأيام، حتى عدَّ بعض الناس مخالفيهم من المحدثين في الدين المبدلين لشرع رب العالمين ، ولا ريب أن هذا من آثار الغلو والبعد عن الإنصاف في وزن الأمور ، ولا شك أن من نظر في أدلة الطرفين يعلم أن المسألة صارت في هذه الأزمنة من أخفى المسائل وأبعدها عن القطع واليقين، وقد رأيت أن ألقي نظرة فيها مستقصيا ما استدل به، وما يمكن أن يستدل به على كلا القولين، ومحاولا الوصول إلى القول الأرجح والأقوى عن علم واتباع للدليل، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل ، وقد رتبت هذا البحث على النحو الآتي:

المطلب الأول : ذكر مذاهب العلماء

المطلب الثاني : أدلة القول الأول ومناقشتها

المطلب الثالث : أدلة القول الثاني ومناقشتها

المطلب الرابع : الترجيح

خطبة العيد خطبتان أم خطبة واحدة


المطلب الأول : ذكر مذاهب العلماء

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول : أنها خطبة واحدة لا يشرع الجلوس في وسطها

    وهو قول عطاء ونقله عن الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم(1)، واختيار سيد سابق(2) والألباني(3) والعثيمين(4).

القول الثاني : أن المشروع في العيدين خطبتان يفصل بينهما بجلوس

   وهذا القول هو مذهب أبي حنيفة(5) ومالك(6) والشافعي(7) وأحمد(8) المنقول في كتب الفقه المعتمدة على المذاهب الأربعة ، واختيار ابن حزم من الظاهرية (9).

 المطلب الثاني : أدلة القول الأول ومناقشتها

ويمكن جمع الأدلة التي يتمسك بها القائلون بالقول الأول في ما يأتي :

الدليل الأول : ظاهر النصوص المرفوعة

قال العثيمين :" ومن نظر في السنة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا خطبة واحدة، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهن ، فإن جعلنا هذا أصلا في مشروعية الخطبتين فمحتمل مع أنه لا يصح لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهن لعدم وصول الخطبة إليهن"(10).

ومن هذه الظواهر حديث جابر بن عبد الله قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة قبل الخطبة الحديث (11). وحديث ابن عباس قال شهدت العيد مع رسول الله e وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة(12). وحديث ابن عمر قال كان رسول الله e وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة(13).

المناقشة :

قد وردت كذلك النصوص في خطبة الجمعة أي بصيغة الإفراد ولم يقل أحد إن خطبة الجمعة خطبة واحدة ليس فيها جلوس، فلا حجة في هذا الظاهر ، إذ يمكن أن يقال نعم إنها خطبة واحدة يجلس في وسطها .

الدليل الثاني : مشروعية الخطبة على الراحلة

روى وكيع عن داود بن قيس عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عيد على راحلته(14).

ومقتضى هذا أنه خطب جالسا ، فكيف يقال إنه كان يفصل بين الخطبتين بجلوس .

المناقشة :

وقد نوقش هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم ووجه بعدة توجيهات نجملها فيما يأتي :

الوجه الأول : إنما فعل ذلك أحيانا ، قال ابن حبان ذكر جواز خطبة المرء على الرواحل في بعض الأحوال. وإلى نحو هذا التوجيه مال الشافعي (15).

الوجه الثاني : أن المعنى أنه خطب قائما على بعير، وهو أحد تأويلين ذكرهما ابن خزيمة لحديث أبي سعيد حيث أخرجه في باب الخطبة قائما على الأرض إذا لم يكن بالمصلى منبر، ومعنى هذا أنه ليس في الخطبة على البعير دلالة على أنه لا يجلس بل يجوز أن يكون خطب قائما على البعير . 

الوجه الثالث : أنه يجوز أن يكون المعنى خطب على الأرض ، وهذا الاحتمال الثاني الذي ذكره ابن خزيمة، وربما أيده لفظ حديث أبي سعيد عند ابن ماجة(16).

الدليل الثالث : أن الخطبة على الراحلة ثابتة من فعل الصحابة وغيرهم

1-عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فقد روي عنه ذلك من طرق متعددة (17).

2-عن علي وعثمان رضي الله عنهما ، فعن ميسرة أبي جميلة قال شهدت مع علي العيد فلما صلى خطب على راحلته قال وكان عثمان يفعله(18). وعن المغيرة بن شعبة قال خطبنا علي يوم عيد على راحلته(19)، وقال ابن أبي ليلى صلى بنا علي العيد ثم خطب على راحلته(20).

3-وقال إبراهيم النخعي :» كان الإمام يوم العيد يبدأ فيصلي ثم يركب فيخطب«(21).

ووجه الدلالة من هذه الآثار كدلاله الفعل النبوي ، وإذا كان هذا ثابتا عنهم من غير نكير يؤثر، فهو كالإجماع على أنه لا جلوس ولا فصل ولا تعدد في خطبة العيد .

المناقشة :

قد يقول من يذهب إلى القول الثاني : إنما نذهب إلى السنية والاستحباب لا إلى الفرضية والإيجاب ، لذلك فقد نص بعض الفقهاء على جواز هذه الصورة مع قولهم إن خطبة العيد خطبتان .

الدليل الرابع : أن الأصل صلاتها في المصلى من غير منبر

ما علم من السنة من أداء الصلاة في المصلى وأنه e لم يكن يخرج منبرا، فهذا يقضي بأنه إما كان يخطب على الراحلة أو على الأرض وفي كلتا الحالتين لا يتصور جلوس ، وإنما يكون الجلوس على المنبر .

المناقشة :

لا تلازم بين أدائها في المصلى وبين كونها خطبة واحدة ، لأنه يحتمل أن يجلس على شيء مرتفع عن الناس.

الدليل الخامس : أثر عطاء في كونهم يتشهدون مرة واحدة

    قال عبد الرزاق عن ابن جريج قال قلت لعطاء متى كان من مضى يخرج أحدهم من بيته يوم الفطر للصلاة؟ فقال كانوا يخرجون حتى يمتد الضحى فيصلون ثم يخطبون قليلا سويعة يقلل خطبتهم قال لا يحبسون الناس شيئا قال ثم ينزلون فيخرج الناس قال ما جلس النبي e على منبر حتى مات ما كان يخطب إلا قائما فكيف يخشى أن يحبسوا الناس وإنما كانوا يخطبون قياما لا يجلسون، إنما كان النبي e وأبو بكر وعمر وعثمان يرتقي أحدهم على المنبر فيقوم كما هو قائما لا يجلس على المنبر حتى يرتقي عليه ولا يجلس عليه بعدما ينزل وإنما خطبته جميعا وهو قائم إنما كانوا يتشهدون مرة واحدة الأولى قال لم يكن منبر إلا منبر النبي e حتى جاء معاوية حين حج بالمنبر فتركه قال فلا يزالوا يخطبون على المنابر بعد(22).

   وهذا الأثر عن عطاء وإن كان مرسلا لأنه لم يدرك الخلفاء الثلاثة إلا أنه فيما يظهر يحكي أمرا مشهورا متواترا في زمنهم، وهو يرد على من يخطب جالسا قرر أنهم كانوا يتشهدون مرة واحدة ولا يجلسون وإنما يخطبون قياما لأنه لم يكن أصلا منبر في المصلى ، وفي هذا التقرير حجة قوية لمن قال بأن الخطبة خطبة واحدة ليس فيها جلوس والله أعلم.

المناقشة :

يحتمل أن يناقش المخالفون هذا الأثر من وجهين :

الأول : أن الأثر ضعيف لإرساله فإن رواية عطاء عن عثمان مرسلة، وهو لم يدرك غيره من باب أولى .

الثاني : أن يقال إنما كان قصده نفي الجلوس من أول الخطبة إلى آخرها أو الجلوس قبل الشروع في الخطبة.


 المطلب الثاني : أدلة القول الثاني ومناقشتها

واستدل الجمهور على قولهم بعدة أدلة منها ما يأتي:

الدليل الأول : استدلال الشافعي

قال الشافعي:" أخبرنا إبراهيم بن محمد قال حدثني عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله عن إبراهيم بن عبد الله عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس"(23).

المناقشة :

-هذا أثر ضعيف وإليه أشار النووي لما قال في الخلاصة:» وروي عن ابن مسعود أنه قال السنة أن يخطب في العيدين خطبتين فيفصل بينهما بجلوس ضعيف غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، ولكن المعتمد فيه القياس على الجمعة(24). فهو لا يريد ابن مسعود الصحابي وإنما هو عبيد الله المذكور في السند المشار إليه ، وهو ضعيف لانفراد إبراهيم بن أبي يحيى به ، وغير متصل لأن قول غير الصحابي من السنة كذا ينزل منزلة المرسل .

الدليل الثاني : استدلال ابن خزيمة

قال باب عدد الخطب في العيدين والفصل بين الخطبتين بجلوس وأسند من طريق بشر بن المفضل عن عبيد الله عن نافع عن عبد الله أن رسول الله e كان يخطب الخطبتين وهو قائم وكان يفصل بينهما بجلوس(25).

المناقشة :

-أن الحديث وارد في خطبة الجمعة، وقد أخرجه البخاري من الطريق نفسه واللفظ ذاته وبوب له باب القعدة بين الخطبتين في الجمعة (26)، وأخرجه مسلم والترمذي من طريق خالد بن الحارث عن عبيد الله ولفظه كان رسول الله e يخطب يوم الجمعة قائما ثم يجلس ثم يقوم قال كما تفعلون اليوم(27).

-فإن قيل هذا استدلال بالقياس ، قيل هذا كل ما تعتمدون وهو ضعيف فيما طريقه التعبد المحض ، وسيأتي رده .

الدليل الثالث : استدلال ابن ماجة

قال ابن ماجة : حدثنا يحيى بن حكيم ثنا أبو بحر ثنا عبيد الله بن عمرو الرقي ثنا إسماعيل بن مسلم الخولاني ثنا أبو الزبير عن جابر قال خرج رسول الله e يوم فطر أو أضحى فخطب قائما ثم قعد قعدة ثم قام(28).

وقال ابن حجر في الدراية :" وهذا يرد قول النووي إنه لم يرد في تكرير الخطبة يوم العيد شيء وإنما عمل فيه بالقياس على الجمعة"(29).

المناقشة:

وهذا الحديث لا يحتج به لضعفه، قال في مصباح الزجاجة :" هذا إسناد فيه إسماعيل بن مسلم وقد أجمعوا على ضعفه وأبو بحر ضعيف"(30).

الدليل الرابع : الإجماع

قال ابن حزم :» فإذا سلم الإمام قام فخطب الناس خطبتين يجلس بينهما جلسة فإذا أتمهما افترق الناس، فإن خطب قبل الصلاة فليست خطبة ولا يجب الإنصات له كل هذا لا خلاف فيه إلا في مواضع نذكرها إن شاء الله تعالى«(31). ولم يشر إلى خلاف في الخطبة هل هي واحدة أم اثنتين فعلم أنه أمر لا خلاف فيه عنده . ويؤكده أنه لم ينقل عن واحد من السلف أنه رأى خلاف هذا الرأي، وعلى المخالف إثباته.

المناقشة :

الوجه الأول : أن الخلاف ثابت إن شاء الله وهو محكي عن أبي بكر وعمر وعثمان حكاه عنهم عطاء كما سبق، فإن لم يكن ثابتا عنهم فهو ثابت عن عطاء بن أبي رباح(32).

الوجه الثاني : أن كل من ثبت عنه أنه خطب على راحلته فقد خطب خطبة واحدة في الظاهر ، لأنه لا يتصور أنه يتكلف القيام على ظهرها.

الوجه الثالث : أن من عادته نقل الإجماع لم ينقله في هذا الموضع ، الشافعي وابن المنذر في كتاب الإجماع وابن حزم في مراتب الإجماع وغيرهم ، وأما عبارة المحلى فمحتملة وغير صريحة .

الدليل الخامس : القياس على الجمعة

قد سبق هذا في كلام النووي رحمه الله تعالى ، وأول من نص عليه الشافعي إذ قال :» ويخطب خطبتين بينهما جلوس كما يصنع في الجمعة«(33).

وقال البيهقي :» باب جلوس الإمام حين يطلع على المنبر ثم قيامه، وخطبته خطبتين بينهما جلسة خفيفة قياسا على خطبتي الجمعة، وقد مضت الأخبار الثابتة فيها « (34). قال الصنعاني :» وليس فيه أنها خطبتان كالجمعة وأنه يقعد بينهما ولعله لم يثبت ذلك من فعله e وإنما صنعه الناس قياسا على الجمعة«(35).

المناقشة :

الوجه الأول : أنه قياس في أمر تعبدي محض ، فإننا لو سألنا عن وجه القياس لما تمكن القائسون من ذكر علة معقولة يجرى بها القياس اللهم إلا التشبيه، وليس كل أمرين اشتبها اشتركا في الأحكام .

الوجه الثاني : أنه يلزم من قاس خطبة العيد على الجمعة أن يجعلها قبل الصلاة أيضا، وأن يصليها بعد الزوال، وأن يوجب حضورها على الناس ، وإن قال قد فرق النص والإجماع بينهما في هذه الأمور ، قيل كثرة الفروق تمنع القياس والله أعلم.

الوجه الثالث : أنه إن صح القياس فإننا نقيسها على خطبة الاستسقاء والكسوف ، وهو خلاف ما رآه الشافعي حيث جعل خطبة الاستسقاء والكسوف كخطبة الجمعة ، والواقع أن هذه أصول بنفسها لا تقاس على غيرها ، ولعله لم يثبت لديه أنها خطبة واحدة لذلك قاسها على الجمعة والله أعلم.

 

المطلب الرابع: الترجيح

من خلال عرض أدلة المذهبين وإيراد ما أمكن من إيرادات عليها ، يظهر لي والله أعلم بالصواب، أن قول من ذهب إلى أنها خطبة واحدة أقرب إلى الصواب وذلك للأدلة والاعتبارات الآتية:

الدليل الأول :

اعتماد ظاهر النصوص من أنها خطبة واحدة ، وما قيل من أنها تحتمل أن يكون المراد بالخطبة خطبتين كخطبة الجمعة، فهو مجرد احتمال مخالف للأصل لم يأت ما يرجحه بخلاف خطبة الجمعة .

الدليل الثاني :

أن ما ثبت عن النبي e من أنه خطب على الراحلة دليل واضح على كونه خطب خطبة واحدة ، وما قيل من أنه يحتمل أنه خطب قائما على الراحلة فاحتمال بعيد، وأبعد منه القول بأنه خطب على الأرض، بل هذا إن كان محتملا في بعض الروايات فهو غير مقبول في روايات أخرى ، والقول بأنه e فعل ذلك أحيانا لا يقدح في المطلوب .

الدليل الثالث :

الآثار المروية عن الصحابة تؤكد المعنى المنقول عن النبي e وتدفع تلك التأويلات المذكورة ، وهي تدل على أن الخطبة خطبة واحدة ، ومن يزعم أن هذا الفعل رخصة وأن الأصل هو إلقاء خطبتين يحتاج إلى دليل نقلي ثابت وهو معدوم .

الدليل الرابع :

ما علم من السنة من أداء الصلاة في المصلى وأنه e لم يكن يخرج منبرا، فهذا يقضي بأنه إما كان يخطب على الراحلة أو على الأرض وفي كلتا الحالتين لا يتصور جلوس ، وإنما يكون الجلوس على المنبر. واحتمال جلوسه على شيء مرتفع وإن كان واردا فليس ثمة ما يسنده من جهة النقل .

الدليل الخامس :

الاستناد إلى أثر عطاء الذي فيه أن خطبة العيد فيها تشهد واحد، فإن قيل كيف يصف شيئا لم يدرك زمانه يجاب بأنه يصفه باعتباره أمرا متواترا يستغنى في نقله عن الرواية بالإسناد، ورواية الأخبار المتواترة بالإسناد تكلف كما يقول الشافعي(36)، بل هي أقوى مما ينفل بالإسناد ، قال ابن تيمية :« بل بعض ما يشتهر عند أهل المغازي ويستفيض أقوى مما يروى بالإسناد الواحد »(37). فلقائل أن يقول: صلاة العيدين من الأمور الظاهرة المتكررة التي لا يمكن أن يخفى مثلها على عطاء فقيه أهل مكة .

وإن سلمنا عدم اعتماده في النقل –لعلة الإرسال -، فهو معتمد قطعا في إثبات الخلاف في أصل المسألة، حيث صرح بأنهم كانوا يشهدون مرة واحدة.

بطلان الإجماع والقياس

أولا : وإن أكثر ما يتمسك به من رأى غير هذا الرأي أن يقول لم يعرف قائل بهذا القول من السلف ، وقد تبين أنه قد قال به علي والمغيرة وغيرهم ممن كان يخطب على راحلته، ومن كان لا يخرج المنبر إلى المصلى ، وهو قول عطاء أيضا .

ثانيا : ولو كانت هذه المسألة مجمعا عليها لما تخلف الشافعي ومن بعده عن نقل الإجماع فيها ، ولما تنـزلوا إلى إثباته بأحاديث لا تثبت وبالقياس على الجمعة .

ثالثا : أن قياس خطبة العيد على خطبة الجمعة قياس ضعيف ، لمعارضته لظاهر النص فهو فاسد الاعتبار، وكذلك هو قياس مع الفارق بل مع الفوارق ، ولم يذكر معتمدوه وجه العلة ولا طريق تصحيحها ، فالاعتماد في مثل هذا الأمر التعبدي المحض على القياس من أضعف ما يكون من الأقيسة.

هل يمكن القول بتجويز الأمرين ؟

ومن المعاصرين من يذهب إلى التخيير بين أن يخطب الخطيب خطبة أم خطبتين، ولعل مستندهم أن النصوص قد دلت على الخطبة الواحدة والإجماع –على قول من أثبته – قد دل على الخطبتين، ولا تعارض بين الأفعال مع تعدد الوقائع والأشخاص ، وهو قول وجيه لو صح الإجماع.

ويمكن أن يستدل مستدل لهذا القول بأن الأئمة الأربعة لم يكونوا ليقولوا بقول لم يسبقوا إليه لأن من أصولهم المتفق عليها عدم إحداث الآراء الجديدة خاصة في أمر تعبدي نقلي لا مجال للاجتهاد فيه ، وكيف يخفى عليهم أمر عملي متصل يتكرر في كل عام مرتين!! ولقد شغل هذا الاعتراض الأخير بالي مدة من الزمن حتى اطلعت على اختلاف العلماء في محل الأذان للظهر والعصر يوم عرفة فوجدت في المسألة أربعة أقوال(38) مع أنها أمر عملي متصل يتكرر كل عام !! وفيه حديث صريح، فقلت كما اختلف العلماء هنا وخفي الصواب على جمهورهم ، كذلك وقع الاختلاف في خطبة العيد وخفي الصواب على الأئمة الأربعة.

خاتمة

هذا آخر ما أمكن تسطيره في هذه المسألة الفقهية ، ولعل أهم نتيجة نكون قد وصلنا إليها إثبات الخلاف فيها ، وبيان وجاهة القول الذي قل من جنح إليه من أهل العلم ، وتوضيح مأخذ أهله ، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح ، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل وأن يصلح ظواهرنا وبواطننا ، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

الهوامش :

1/ المصنف لعبد الرزاق (5650).

2/ فقه السنة لسيد سابق (1/240).

3/ تمام المنة للألباني (349).

4/ الشرح الممتع (2/376) .

5/ المبسوط للسرخسي (2/37) بداية المبتدي للمرغناني (27-28) بدائع الصنائع للكاساني (1/276) البحر الرائق (2/175).

6/ المدونة لابن القاسم (1/170) التاج والإكليل (2/195) حاشية الدسوقي (1/400) حاشية العدوي (1/494).

7/ الأم للشافعي (1/135-136) (1/238) المهذب للشيرازي (1/120) المجموع للنووي (5/27) إعانة الطالبين للدمياطي (1/164).

8/ المغني لابن قدامة (2/121) المبدع لابن مفلح (2/185) الفروع لابن مفلح (2/111) منار السبيل لابن  ضويان (1/148).

9/ المحلى لابن حزم (5/82).

10/ الشرح الممتع (2/376) .

11/ البخاري (918) مسلم (885) .

12/ البخاري (919).

13/ البخاري (920).

14/ ابن أبي شيبة (5854) وابن خزيمة (1445) وابن حبان (2825).

15/ الأم (1/135-136) قال النووي (5/27):» ويجوز أن يخطب من قعود لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله e «خطب يوم العيد على راحلته».

16/ ابن ماجة (1288) عن أبي كريب عن أبي أسامة عن داود بن قيس ولفظه:» كان رسول الله e يخرج يوم العيد فيصلي بالناس ركعتين ثم يسلم فيقف على رجليه فيستقبل الناس وهم جلوس فيقول تصدقوا تصدقوا فأكثر من يتصدق النساء بالقرط والخاتم والشيء فإن كانت له حاجة يريد أن يبعث بعثا يذكره لهم وإلا انصرف.

17/ ابن أبي شيبة (5857) حدثنا محمد بن عبيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس رأيت المغيرة بن شعبة يخطب على نجيبة ، ابن أبي شيبة (5863) والبيهقي (6005) من طريق عبد الملك بن عمير أنه قال رأيت المغيرة بن شعبة يخطب الناس يوم العيد على بعير.

18/ ابن أبي شيبة (5855) حدثنا ابن إدريس عن حصين عن ميسرة أبي جميلة.

19/ ابن أبي شيبة (5861) حدثنا وكيع عن أبي حباب عن أبيه عن المغيرة بن شعبة.

20/ ابن أبي شيبة (5856) حدثنا أبو بكر بن عياش عن يزيد عن ابن أبي ليلى.

21/ ابن أبي شيبة (5862) حدثنا جرير عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم.

22/ عبد الرزاق (5650).

23/ الأم للشافعي (1/238).

24/ نقلا عن نصب الراية للزيلعي (2/221).

25/ صحيح ابن خزيمة (1446) .

26/ البخاري (886) .

27/ مسلم (861) والترمذي (506).

28/ ابن ماجة (1289).

29/ الدراية لابن حجر (1/222).

30/ مصباح الزجاجة (1/152) وفي الباب حديث آخر ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/203) : »وعن سعد بن أبي وقاص أن النبي e صلى العيد بغير أذان ولا إقامة وكان يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة رواه البزار وجادة وفي إسناده من لم أعرفه «.

31/ المحلى لابن حزم (5/82).

32/ قال ابن القيم في زاد المعاد وهو يناقش مسألة الطلاق الثلاث (5/234):» أما المقام الأول فقد تقدم من حكاية النزاع ما يعلم معه بطلان دعوى الإجماع، ولو لم يعلم ذلك لم يكن لكم سبيل إلى إثبات الإجماع الذي تقوم به الحجة وتنقطع المعذرة وتحرم معه المخالفة، فإن الإجماع الذي يوجب ذلك هو الإجماع القطعي. وأما المقام الثاني وهو أن الجمهور على هذا القول فأوجدونا في الأدلة الشرعية أن قول الجمهور حجة مضافة إلى كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أمته، ومن تأمل مذاهب العلماء قديما وحديثا من عهد الصحابة وإلى الآن واستقرأ أحوالهم وجدهم مجمعين على تسويغ خلاف الجمهور، ووجد لكل منهم أقوالا عديدة انفرد بها عن غيره ولا يستثنى من ذلك أحد قط، ولكن مستقل ومستكثر، فمن شئتم سميتموه من الأئمة ما له من الأقوال التي خالف فيها الجمهور ؟! ولو تتبعنا ذلك وعددناه لطال به جدا ونحن نحيلكم على الكتب المتضمنة لمذاهب العلماء واختلافهم ومن له معرفة بمذاهبهم وطرائقهم يأخذ إجماعهم على ذلك من اختلافهم، ولكن هذا في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد ولا تدفعها السنة الصحيحة الصريحة « .

33/ الأم للشافعي (2/236) وممن استدل بذلك النسائي في سننه إذ أورد حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَقْعُدُ قَعْدَةً لَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ خُطْبَةً أُخْرَى فَمَنْ خَبَّرَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ قَاعِدًا فَلَا تُصَدِّقْهُ (1483) ، وهذا الحديث وارد في الجمعة، وقد أخرجه في كتاب الجمعة : مسلم (862) أبو داود (1093،1094) ابن ماجة (1105،1106) وكذلك النسائي (1415،1417،1418).

34/ السنن الكبرى للبيهقي (3/299).

35/ سبل السلام للصنعاني (2/68) .

36/  قال رحمه الله في الأم (1/457) « وهو من الأمور العامة التي يستغنى فيها عن الحديث، ويكون الحديث فيها كالتكلف لعموم معرفة الناس لها». وقال في الأم (4/63-64) « وإن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات لكَما وصفت ، ولم يزل يتصدق بها المسلمون من السلف ويلونها حتى ماتوا . وأنَّ نقل الحديث في ذلك كالتكلف »..

37/ الصارم المسلول لابن تيمية (148).

38/ القول الأول : يخطب الإمام حتى يمضي صدر من خطبته أو بعضها ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب وهو قول مالك.

القول الثاني : يؤذن إذا أخذ الإمام في الخطبة الثانية ليكون الفراغ من الأذان مع الفراغ مع الخطبة وهو قول الشافعي.

القول الثالث : يؤذن إذا صعد الإمام المنبر كالحال في الجمعة وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور.

القول الرابع : يؤذن بعد انتهاء الخطبة وهو مذهب أحمد واختيار ابن حزم وهو الصحيح المنصوص عليه في حديث جابر الطويل .

وخطبة عرفة خطبة واحدة في مذهب أحمد كما في الإقناع (1/387) وهي خطبتان عند أصحاب المذاهب الثلاثة .

تم قراءة المقال 6380 مرة