الجمعة 12 رمضان 1442

علو الهمة في الدعوة إلى الله تعالى مميز

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

محاضرة بمقر جمعية العلماء لولاية غليزان بتاريخ 23 جمادى الآخرة 1442الموافق 5 فيفري 2021
   الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإن الدعوة الله إلى الله تعالى هي مهمة الأنبياء والمرسلين وهي مهمة لا يتحملها حق تحملها إلا الصادقون ولا يثبت عليها وعلى عقباتها إلا الصابرون الموفقون؛ إن الانخراط فيها والاسهام فيها يعتبر من معالي الأمور؛ لا يهتدي إليه إلا ذوو الهمم العالية في هذه الدنيا الدنية؛ ومع ذلك فإن النفس مهما كانت صادقة وصابرة يعتريها ما يعتري البشر من آفات تجعل المرء يتعب أو ييأس وإن طال الأمد ينقطع أو ينحرف.
    لذلك فإن الداعي إلى الله تعالى والمسهم في الأعمال الدعوية يحتاج دوما إلى وفقات لمراجعة النفس ولتجديد الهمة وإعادة استجماع القوى ليستمر بإذن الله تعالى في طريق وظيفته النبيلة على منهج قويم، ولعل هذه المحاضرة التي دعيت إليها مندرجة في هذا السياق، نسأل الله لنا ولجميع إخواننا العاملين الهداية والتوفيق والثبات والتسديد.
بعد هذا الاستهلال المقتضب نشرع في الموضوع المحدد لهذه المحاضرة والتي سنقسمها إلى العنصرين الآتيين:
أولا: مفهوم علو الهمة ودنو الهمة في الدعوة وخطورته ومظاهره.
ثانيا: أسباب علو الهمة في الدعوة إلى الله تعالى..
المطلب الأول: مفهوم علو الهمة ودنو الهمة في الدعوة وخطورته ومظاهره.
أولا : مفهوم علو الهمة في اللغة
   أما الهمة فهي مصدر من هم يهم هما بمعنى نوى وأراد وعزم عزما قويا فيقال هم بالفعل أراد فعله، ومنه فإن الهمة هي الإرادة والعزيمة، وتطلق مجازا على الشيء المراد والغاية والهدف والمطلب.
  وأما علو الهمة فهو مرادف لقولهم فلان عظيم الهمة أو بعيد الهمة، وضده قولهم فلان صغير الهمة ودنيء الهمة، وقد أطلق الهمام على الملك العظيم الهمة وعلى كل شجاع سخي.
ثانيا : ضرورة اقتران الهمة بالعمل والامكان
   إن الهمة العالية في أي مجال من المجالات تعتبر من أهم من أسباب النجاح فيه، وإنه على قدرها ووفقها تأتي النتائج كما قال المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم.
  والهمة التي نتحدث عنها هي الهمة التي تدفع إلى العمل والمقرونة بالعمل من جهة والمتصفة بالامكان من جهة أخرى، وإلا صار علو الهمة ضربا من الآماني وأحلام اليقظة والغرور.
كما قال أبو تمام:
همةٌ تنطحُ النجومَ وجَدٌ ... آلِفٌ للحضيض فهْو حضيض
وكما قال أعرابي قبله:
همّته قد علَت وقدرته ... في اللحد بين الثرى مع الكفن
وقديما قالوا في ذم من لم يجمع إلى الهمة العمل: (همته في علاء وجده في سفال)، و(همته ناطقة وجده أخرس)، و(همة ذات حَراك وجدٌ ساكن)، و(همة فلان ترفعه وجده يضعه)( ).
ثالثا: دنو الهمة من عوائق الدعوة إلى الله تعالى
   من الأمراض التي تصيب أفراد العاملين في حقل الدعوة الله تعالى فتؤثر في ثباتهم وفي إتقانهم أعمالهم؛ مرض الفتور ودنو الهمة، وهو داء يصيب كثير من الناس حتى في طاعتهم وعبادتهم ويصيب الدعاة أيضا في عبادة الدعوة إلى الله تعالى، ولا يكاد يسلم منه أحد إلا من شاء الله.
   والمصابون بهذا الداء على أقسام، إذ منهم من يؤدي بهم الفتور إلى الانقطاع الكلي فيترك مجال الدعوة إلى الله تعالى، ومنهم من لا يقطعه لكن يضعف نشاطه، أو يضعف اتقانه ، ومنهم من ينحرف عن مساره. ولخطورة هذا المرض النفسي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يستعيذ من مظاهره كالكسل والبخل والجبن، ويقول :« اللهم إني أعوذ بك من الكسل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من البخل» (متفق عليه). يستعيذ من كل ذلك مع أن منجزاته صلى الله عليه وسلم إذا تم قياسها بمدة دعوته علمنا أنها كانت من المعجزات، ولا شك أنه كان مثل غيره من الأنبياء الذين قال فيهم رب العزة جلاله : (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90].
رابعا : خطورة دنو الهمة
    كما ذكرنا في المقدمة فإن الداعي إلى الله تعالى يحتاج دوما إلى وفقات لمراجعة النفس ولتجديد الهمة وإعادة استجماع القوى ليستمر في وظيفته النبيلة على منهج قويم، فيسلك سبيل المهتدين ويتجنب طريق الهالكين المشار إليهم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:« لكل عمل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك» (الذي رواه أحمد وصححه ابن حبان). والشرة بمعنى النشاط والفترة من الفتور وهو ضد النشاط، والدعوة إلى الله تعالى عمل فكل داع عرضة للنشاط والفتور ، وهذا الفتور لابد أن لا ينزل إلى أقل من الحد الأدنى وإلا كان المرء من الهالكين ، ويقول ابن القيم في توجيه هذا الحديث:" تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم؛ رجي له أن يعود خيرا مما كان". وهو المعنى الذي هدف إليه علي رضي الله عنه حين قال:« إن النفس لها إقبال وإدبار فإذا أقبلت فخذها بالعزيمة والعبادة، وإذا أدبرت فأقصرها على الفرائض والواجبات».
   ولعل السامع للحديث يتساءل كيف يكون الفتور في باب الدعوة الذي هو عمل تطوعي سببا للهلاك؛ وحد التطوع أن يكون مندوبا يؤجر فاعله ولا يؤاخذ تاركه فيقال نعم إن الدعوة إلى الله تعالى ومثلها طلب العلم والتعليم في أصلها فضائل وفي حق الأفراد مندوبات ولكنها في حق الأمة من الواجبات وقد تنقلب في حق أفراد من مندوبات إلى واجبات؛ فهي من فروض الكفايات؛ وفروض الكفايات إذا لم تؤد لا تأثم كل الأمة على التحقيق ولكن يأثم القادرون على القيام بها، وفي مقدم هؤلاء الآثمين الذين شرعوا في تلك الأعمال ثم تركوها مع ثبوت الأهلية والقدرة وانتفاء العذر، وقد شبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من شرع في طلب العلم ثم تركه بمن تولى يوم الزحف، ولا يخفى ما بين الجهاد والعلم من تشبيهات في المقاصد والأحكام، والدعوة إلى الله جهاد وهي أيضا تعليم وكلاهما مبني على العلم.
    وفي الحديث تحديد للحد الأدنى بموافقة السنة وذاك يقتضي أن الهلكة تكون بترك السنة وكذا بالانحراف عن السنة؛ إذ الاستمرار لا ينبغي أن يكون كيف ما اتفق ولكن على وفق الهدي النبوي ومن اتبع السنة اهتدى.
خامسا : مظاهر الفتور ودنو الهمة في مجال الدعوة
   إن للإصابة بالفتور ودنو الهمة في مجال الدعوة إلى الله مظاهرة عدة نسردها على مسامعكم سردا ؛ لتكون دليلا نقيس به همتنا ومرجعا نكشف به عن حالتنا ، إن الفتور مرض لابد من المسارعة إلى علاجه، ولا يلجأ إلى العلاج إلا من تحقق من وجود أعراض المرض.
1-تضييع المرء للوقت، وإمضاؤه فيما لا يعود إليه بالنفع، من كثرة الكلام وكثرة السهرات واللقاءات التي لا تتضمن ذكرا ولا تخطيطا ولا تقييما لعمل، وعندما يحصي أعمال الشهر والسنة لا يجد شيئا ذا بال يستحق الذكر.
2-التكاسل وعدم الاستعداد النفسي للالتزام بشيء الأعمال، وكذا التهرب من كل عمل جدي واختلاق الأعذار لذلك.
3-التسويف وتأجيل الأعمال التي لا مصلحة في تأخيرها، فتجد في الناس من يحصر نشاطه في مواسم معينة مع قدرته على غيرها، وتجده يؤخر أعمالا دعوية وتعليمية شهورا فبدلا من إنجاز مشروعين أو ثلاثا في السنة يكتفي بواحد منها وربما لا يتمه.
4-الفوضوية في العمل؛ فلا هدف محدد وتخطيط، ربما يشرع في عمل ثم سرعان ما يتركه لآخر ، ومن مظاهر الفوضوية الانطلاق في العمل دون مراعاة للظرف ولا للمدة المحتاج إليها ولا العوارض التي يمكن أن تعترضه.
5-النقد لكل عمل إيجابي؛ تنصلا من الاسهام فيها، وتضخيم أخطاء العاملين وسلبيات أعمالهم؛ تبريرا لعجزه ودنو همته؛ وكأنه لما يشتغل بنقد الغير يثبت كمال نفسه ويبين نباهته إذ لم يسهم في أعمال ناقصة أو فيها نقص، ويندرج مع هذا الإكثار من إلقاء اللوم على الآخرين، وربط تفريطه بعدم استجابة الناس وعدم مساندتهم.
6-خداع النفس بالانشغال عن الكليات بجزئيات لا قيمة لها أو أقل قيمة من غيرها، ويحاول إقناع نفسه بجدواها، كمن يقيم مسابقات لحفظة القرآن تختم باحتفالات، وهو لا ينشط أصلا في مجال تحفيظ القرآن أو مسابقات علمية وهو لا يعلم، ومن يفسر الدعوة ويحصرها في تنظيم الرحلات الترفيهية والمخيمات الصيفية.
7-التسلى بذكر الانجازات القديمة أو بأعمال الغير من السابقين أو المعاصرين وهو نوع من خداع النفس أو تشبع المرء بما لم يعط، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف:2،3].

المطلب الثاني : أسباب علو الهمة في الدعوة إلى الله
 
1-من أهم أسباب علو الهمة تعاهد الإيمان وتجديده ومحاسبة النفس بين الحين والآخر، وقد جاء في الأثر:« إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم». وفي هذا سلامه من الغرور وحسن الظن بالنفس الذي هو أوسع أبواب الهلاك، وربنا يخاطب المؤمنين بالتوبة فيقول : (وتوبوا إلى جميعا أيها المؤمنون) ويأمرهم بالإيمان فيقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ويقول في حق المتقين : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف:201].
   وعلى الضد من ذلك إن من أسباب دنو الهمة إدمان المعاصي؛ لأنها تذهب الإيمان وتضعف الإرادة وتطفئ النور الذي في القلب، وقد فال أحدهم للحسن البصري رضي الله عنه شاكيا: "لا أقوى على قيام اللّيل ؟" فأجابه: " كبّلتك خطيئتك بالنّهار"... وكذلك يقال من لم يقو على الدعوة إلى الله في النهار فلأنه قد كبلته معصيته في الليل.
2- من أسباب علو الهمة: تجديد الإخلاص ومصاحبته: الإخلاص الذي هو أحد ركني قبول العمل؛ وإن مما يدفع المسلم إلى الجد والاجتهاد، ويحميه من الملل والسآمة؛ أن يضل راجيا ما عند الله تعالى من ثواب. ثم أن المخلص المتقي يكون مؤيدا من الله حيث يجعل له في قلبه نورا يهتدي به ويفرق به بين الحق والباطل والخير والشر، كما قال سبحانه: (إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً)[الأنفال:29].
   ومن فسدت نيته وتسلل الرياء إلى قلبه وأثقلته الأمراض الباطنة كالحسد والغرور ؛ فلا تعجب إن رأيته دنيء الهمة راكنا إلى الراحة وقد ركبه الفتور .
3-من إن أسباب الحفاظ علو الهمة: أن تجعل لأعمالك أهدافا قريبة وأخرى بعيدة، وهدفا نهائيا وهو رضا الله تعالى الذي تبقى تسعى إليه؛ حتى وإن لم تتحقق الأهداف القريبة، وبقي الأمل في تحقيق الأهداف البعيدة ضعيفا أو منقطعا، ولنتأمل قول الله تعالى : (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف: 164، 165)، وليكن حال الداعي إلى الله تعالى كحال المجاهد الذين يعيش بين الخيرين إما النصر أو الشهادة.
   ومنه يعلم أن من أسباب الانقطاع ودنو لهمة داء الاستعجال للثمرة حيث يدب اليأس إلى القلوب لتأخر حصولها أو قلتها في نظر العامل، ومن وزع أهدافه على وفق ما ذكرنا سلم بإذن الله تعالى.
4-ومن أسباب الثبات والحفاظ على علو الهمة في الدعوة الوعي بطبيعة الطريق؛ لأن هذا الطريق طريق الأنبياء والمرسلين، الذين قص القرآن علينا قصصهم، وقد قال تعالى لخاتمهم صلى الله عليه وسلم معلما ومسليا: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) (فصلت: 43)، والعلم المسبق بطبيعة الطريق يجعل العبد يكون مستعدا لمواجهة العوائق، ويثبت أمامها ولا يتفاجأ عند حصولها، وما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بأحاديث الفتن وأشراط الساعة إلا لتهية للنفوس لمواجهتها ، وتأملوا معنى ذلك في قوله تعالى: (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الأحزاب:22).
   ومنه إذا سمعتم من يقول: إن من أسباب دنو الهمة كثرة العوائق والمعارضين والأعداء في طريق الدعوة، فصححوا لهم المفهوم قولوا: بل العائق هو عدم استعداد الداعي لذلك أو عدم حسن التصرف حيالها، لأن تلك هي طبيعة الطريق.
5-ومن طرق رفع الهمة النظر في القدوة الصالحة التي سبقت إلى الميدان؛ إذ للقدوة الصالحة تأثير عجيب في استنهاض الهمم ورفع العزائم، وإن كثيرا من النفوس قد لا تؤثر فيها المواعظ ونصوص الترغيب والترهيب، كما تؤثر فيها القصص الواقعية والمواقف البطولية، فعلى الداعي إلى الله تعالى أن يشتغل بقراءة قصص الأنبياء وسير الصالحين والمجاهدين عبر العصور، فإن ذلك أن مما يقوي فؤاده ويلهب من حماسه ويشد من عضده . وقد قال ربنا لنبيه (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه) (الأنعام: 90) وقال سبحانه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) (الفرقان: 32).
6-من أسباب الحفاظ على علو الهمة الاعتدال في الأمور وتجنب المغالاة ؛ إذ كما أنه من أسباب ترك العبادة الغلو في الدين ومجانبة سماحة الدين المناسبة للفطرة، كذلك من أسباب ترك الدعوة ترك ذلك الاعتدال، وقد قال صلى الله عليه وسلم:« هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون» (رواه مسلم) وقال :« إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» (رواه البخاري) وكما قيل إذا زاد الشيء عن حدة انقلب إلى ضده، ولوح نبينا صلى الله عليه وسلم إلى أن الاعتدال من أسباب الثبات على العمل فقال : «عليكم بما تطيقون؛ فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه» (متفق عليه).
7-من أسباب علو الهمة تنويع الأعمال والوسائل؛ لأن من طبع النفس الملالة وأنها تكره الرتابة، وتحب التجديد والتنويع، ولابد للعبد أن يراعي ما جبلت عليه نفسه. وهذا أمر مجرب فكم من إنسان داوم على عمل حتى إذا أدركه الفتور فيه وثقل عليه انتقل إلى غيره، فيتجدد نشاطه، وتقوى عزيمته، ويجد فيه لذة ومتعة، ولو استمر في العمل الأول لخارت قواه ووهنت عزيمته.
8-من أسباب علو الهمة الإكثار من ذكر الله تعالى، قال الله تعالى : (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28] فالذكر هو زاد القلوب ومحركها ومقويها ودافعها، يقول ابن القيم:« إن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يطيق فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرا عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرا عظيما» . وتأمل كيف قرن المولى عز وجل بين الأمر بالثبات وذكره فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال:45) وذلك أن الذكر من موجبات الثبات.
   ومما يحذر إليه الداعي إلى الله في هذا السياق نسيان النفس والاشتغال بوعظ الناس وتذكيرهم والغفلة عن ذكر الله تعالى، مما يورث قسوة القلب مع طول الوقت يتلوه ضعف للهمة مصحوب بآفات وانحرافات.
9-من أسباب علو الهمة الإكثار من ذكر الموت، والخوف من انقضاء الأجل قبل إتمام الأعمال، وإنه لا علاج لطول الأمل وداء التسويف القاتل للهمم إلا بذكر الموت والقبر والجنة والنار، قال علي رضي الله عنه: «إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة». وقَالَ نبينا صلى الله عليه وسلم: « كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: « إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ » (رواه البخاري).
وعن الدقاق الزاهد أنه قال: « ومن أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة».
10-من أسباب علو الهمة في الدعوة لزوم العمل الجماعي والتعاون على البر والتقوى ، حيث أن المرء إذا ضعف يجد من إخوانه من يشجعه ويذكره، بل إنه يتقوى بمجرد رؤيته لنشاط الجماعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:« إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» أي التي تبتعد عن الجماعة، وإن مما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم أمته أن قال : «  عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة» (رواه الترمذي).
11-من أسباب علو الهمة الدعاء والاستعانة بالله تعالى، وقد قال سبحانه: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر:60). وحقيقة هذه الاستعانة نجدها في الدعاء الذي علمنا النبي أن نقوله في الصباح والمساء:« يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفس طرفة عين أبدا » وذلك أنه لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله تعالى ، ولا توفيق إلا لمن وفقه سبحانه. وإنه الغرور وأسباب الفتور أن يظن المرء أنه مستغن عن إخوانه وأن ينسى أنه في حاجة إلى ربه سبحانه .
12-من أسباب علو الهمة متابعة الواقع والأحداث ، فإن الداعي إلى الله إن وقف إلى واقع الأمة عرف ما يتوجب عليه ، وأدرك خطط أعداء الله ودينه ؛ فيكون ذلك محفزا له على بذل المزيد من الجهد، ولكن عليه أن يكون مقتصدا في ذلك حتى لا يستدرجه تتبع ما يجري حتى يصرفه عن عمله الأساس وينسيه برنامجه، وليحذر من أن يتحول ذلك من مصدر وعي إلى سبب غفلة ومن طريق إلى علو الهمة إلى طريق إلى دنوها.   

وفي الختام نقول إن حياة الإنسان مختصر في الإيمان والعمل به والدعوة إليه والصبر على ما ينال المرء في سبيل ذلك كما قال تعالى : (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ولا يتوصل المرء إلى تحقيق هذه الأربعة إلا بعلو الهمة، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد (3/ 227):"العلم والعمل توأمان أمهما علو الهمة. الجهل والبطالة توأمان أمهما إيثار الكسل". فعلينا بالعمل الدؤوب والثبات عليه وإن الثمرة –مع الإخلاص والسداد- آتية لا محالة ، وليس لإتيانها توقيت محدد ولكنها آتية بإذن الله ، كما قال شوقي
( إنما الهمّةُ البعيدةُ غرسٌ ** متأتي الجنى ، بطيءُ الكمائم
 ( ربّما غابَ عن يدٍ غَرَستْهُ ** وحوته على المدى يدُ قادم )
وسبحانك اللهم وبحمدك وأشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

تم قراءة المقال 957 مرة