الأربعاء 7 شعبان 1446

نقد نظرية التطهير Catharsis التلفزيون في الغرب مدرسة إعدادية للانحراف

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 

 

 

نقد نظرية التطهير Catharsis
التلفزيون في الغرب مدرسة إعدادية للانحراف
تلفزيون أم "مفسديون"!!؟

كتبه يزيد حمزاوي رحمه الله
( ج صحافة اليرموك- ص5 -السبت 22 تموز 1994م)
   إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أما بعد
   ففي مدينة بوسطن الأمريكية رسب طفل عمره تسع سنوات في معظم مواد الدراسة فاقترح على والده أن يرسل صندوقا من الحلوى المسمومة إلى المدرسة وعندما استوضحه والده قال إنه أخذ الفكرة من برنامج تلفزيوني.
   وفي مدينة بون الألمانية قامت فتاتان في الثانية عشرة من عمرهما يقتل صبي غريب عنهما، واتضح للمحقق في هذه الجريمة أنهما شاهدنا في اليوم السابق لارتكاب الجريمة فيلما تلفزيونيا انتهي بجريمة قتل ضد نجم الفيلم بنفس الطريقة.
   وفي فرنسا أطلق طفل عمره خمس سنوات رصاصة على جاره عمره سبع سنوات وأصابه إصابة خطيرة بعد أن رفض الأخير إعطاءه قطعة من اللبان وقد ذكر الطفل في أقواله للشرطة أنه تعلم كيف يحشو بندقية والده عن طريق مشاهدة الأفلام في التلفزيون.
   إن بعض هذه الأحداث الواقعية تدفعنا بقوة على التساؤل عن مدى صحة نظرية التطهير Catharsis التي تُدرس في جامعاتنا في أقسام علم النفس والإعلام على أنها نظرية علمية تستند إلى حقائق مجردة، وملخص هذه النظرية، أنها تعتمد مبدأ تطهير العواطف والمشاعر عبر التجربة غير المباشرة.. ويرى أصحاب هذه النظرية أن مشاهدة أفلام العنف على التلفاز تسمح للمشاهد بتصريف إحباطاته من خلال المعايشة الخيالية بدلا من الممارسة الواقعية، لذلك فإن مشاهدة العنف تعمل كصمام أمان يصرف الإحباط والشعور بالعداء، وتكون نتيجته مماثلة للكمات يوجهها المرء لكيس مليء بالهواء، إن تطهير النفس من ميول العنف - كما تذهب إليه هذه النظرية - أمر مفيد خاصة لشرائح المجتمع الدنيا أكثر من الشرائح الأخرى التي تستفيد من العلاقات الاجتماعية ووسائل التنشئة الاجتماعية لمواجهة الإحباطات.
  ما أجمل هذا الكلام لو كان صحيحا!! لكنه مجرد افتراضيات تقوم على أسس أوهى من بيت العنكبوت، وهي أقرب ما تكون إلى علم الخيال من الواقع ذلك أننا تعلمنا في المنهج العلمي أن النظرية تحتاج إلى براهين علمية كالأعمدة أما دون ذلك فخرط القتاد، خاصة أن الدراسات العلمية الميدانية، والواقع المعاش يشهدان على بطلان نظرية التطهير، فبرامج التلفزيون التي تعرض نسبة كبيرة من فنون العنف والجريمة والسطو المسلح وحيل القتل وقطع الرقاب، كلها وبال على الأمة ووباء لأطفالها، الذين يلعب التلفزيون في حياتهم دور المربي والمعلم ملقنا لهم ومنشئا على مبادئ ومفاهيم منحرفة تحكم تصرفاتهم وسلوكهم في المستقبل فكيف يأتي بعد ذلك من يقول إن هذا الوباء مطهر من العنف!!؟
   وقد عجز أنصار هذه النظرية، حتى الآن من إيراد الأدلة الموضوعية على صحة ما ذهبوا إليه، لكنهم يستندون فقط إلى افتراضات سيكولوجية، وهذه الافتراضات لا تقوى على الوقوف على أقدامها أمام النظريات العلمية التي أثبتت التجارب المخبرية صحتها، وهذه النظريات ترى عكس ما تراه نظرية التطهير، لا سيما نظرية إثارة الحوافز العدوانية ونظرية التعلم من خلال الملاحظة اللتان توصلتا إلى نتائج جد علمية، فعلى سبيل المثال أوضحت دراسات العالم الفرنسي  "جان جيرو" أن أسباب سوء التكيف بين المنحرفين في باريس ترجع إلى الانحرافات الناتجة عن مشاهدة أفلام العنف، وكل الإحصاءات التي أجريت في إسبانيا أن ٤٠٪ من الأحداث المنحرفين قد اقتبسوا أفكار العنف من مشاهداتهم للأفلام والمسلسلات والبرامج العدوانية التي تدور أحداثها حول ارتكاب الجرائم وطرق الاعتداء على الناس، ويرى علماء الاجتماع أن التلفزيون يشيع في النشئ حب المغامرة والتحرر من القيود والاتصال بعالم الكبار، كما يقوي ميولهم بأن يصبح لهم كيان، ولكنهم يرون  أيضا أن التطرف في المشاهدة قد يؤدي إلى الانحراف.
   هذه الحقائق الدامغة جعلت الطبيب النفسي والأستاذ بجامعة كولومبيا " ستیفن بانا"، يختصر خطورة أفلام العنف
على الطفل بقوله: "إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث".
   ويفند الخبير الإسلامي في الإعلام الدكتور "إبراهيم إمام" آراء من يرون عدم تأثير التلفزيون على الأطفال بقوله: "تأخذ الدول الغربية في معظمها بنتائج البحوث الأخيرة التي تهون من التأثير الضار للتلفزيون على جميع الأطفال باعتبار أن الطفل العادي الطبيعي السوي هو المعيار الذي ينبغي القياس عليه، ولكن الحقيقة أن وسائل الإعلام، وخاصة التلفزيون أصبحت جماهيرية بحكم طبيعتها ومن ثم فإن تأثيرها وبائي عام، ولا يمكن القول بأن الوباء غير ضار، إذا نجا منه بعض الأفراد، وحتى المريض الذي يشفى من آثار الوباء ويظل معتدلا أو مصابا بمضاعفات أخرى لا يمكن إهماله أو التهوين من شأنه .
   ولا شك أن إصلاحيات الأحداث تعطي لنا أمثلة حية وواقعية لضحايا المجتمع من التلوث الإعلامي بوجه عام والتلفزيون بوجه خاص، صحيح أن التلفزيون ليس هو السبب الوحيد للانحراف وجنوح الأحداث، كما أنه ليس مسؤولا عن الأمراض النفسية والعضوية التي تصيب الأطفال، ولكن في الوقت نفسه إنكار أثر التلفزيون في تلوث بيئة الطفل بعيد من الحقيقة".
    فلا ندري بعد هذا كله كيف تكون برامج العنف مطهرة من العنف، وهل يكون الماء النجس صالحا للغسل والوضوء!!؟
    يتبين مما قلناه أن مهمة أصحاب "نظرية التطهير"، وأسميها نظرية تجاوزا فقط -صعبة للغاية، ذلك أنه لم يعد من واجبهم فقط تقديم أدلة على صحة ما ذهبوا إليه لكن من واجبهم كذلك تفنيد أدلة نظريتي "التعلم بالملاحظة" و"إثارة الحوافز العدوانية" اللتين تؤكدان التأثير السلبي التلفزيون على المشاهدين بتعليمهم العدوانية ودفعهم إليها، والأمر كله مترابط، فصحة هاتين النظريتين يبطل نظرية التطهير، وصحة هذه الأخيرة يبطل الأوليتين.
    ثم إن وسائل الإعلام خلقت تناقضا عجيبا داخل نفسية المشاهدة خاصة الطفل، بين دينه وعقيدته وبين ما يراه في وسائل الإعلام، بين ما يتعلمه من فضائل في المدرسة وما يتلقاه من رذائل على الشاشة، ففي المدرسة والمسجد يُدعى إلى الخلق الصالح ومساعدة الناس والحفاظ على حقوقهم والدفاع عن أموالهم وأعراضهم واحترام النفس البشرية وتعظيم قدرها عند الله والناس، وفي المقابل تحشى في عقله مشاهد الأفلام التي تنسف كل ما تعلمه آنفا، فتجعل من أموال الناس مشاعا لكل سارق وناهب، وأعراض الناس سهلة لمن أراد هتكها أو العبث بها، أما دم الإنسان فهو في هذه الأفلام أرخص من دم البعوض، يراق عشرات المرات في فيلم واحد برصاصة طائشة أو لكمة قوية، ولأدنى الأسباب وأتفهها مرورا بحروب العصابات والسطو على البنوك واغتيال العشيق لزوج عشيقته..
   وإضافة إلى تعلم هذه الفنون كلها يتم تشويه مفهوم البطولة والشجاعة لدى الطفل فليس البطل هو الصحابي أو الفاتح الإسلامي أو المجاهد، بل البطل هو الممثل القاتل، واللص الماهر والسفاكون والسُرق، الذين لا يُقهرون والشجعان الذين
لا يُغلبون، وعندها يجد الطفل هذا البطل المزيف قدوة وأسوة يقلدها ويعجب بأفعالها وذكائها وتصرفاتها الخارقة.
   والمؤسف أن حتى أفلام الكرتون موبوءة بالعنف والخداع، وقد تبين أنها من أخطر البرامج الإعلامية على الطفل، وهي برامج غير بريئة كما يتصور البعض، إنما هي صناعة مدروسة ومخططة ومحبوكة لأغراض الإفساد ومن دقق النظر فيها يتبين له ذلك، وأنقل هنا ما كنت كتبته في مقال سابق بعنوان فرعي "السرقة حرام زعموا"!!!   "محمد طفل مراهق تربى على التلفزيون من صغره ورضع من برامجه أكثر مما رضع من حليب أمه، قام يوم الجمعة من فراشه عند الزوال وولى وجهه شطر التلفزيون، فجلس وتربع... فنطقت المذيعة... نقدم لكم صلاة الجمعة من مسجد ... وبعدها نعود لبرامج الأطفال فبدأ الخطيب بالخطبة وكان موضوع خطبته عن السرقة فجاء بالأحاديث والآيات وأقوال العلماء، فخلاصة الخطبة لا تسرق فإن السرقة حرام وعاقبتها وخيمة في الدنيا بالسجن وقطع اليد وفي الآخرة عذاب أليم، سمع محمد هذه الكلمات وهو غير مكترث بها، فالمهم أن يكمل هذا الشيخ الثقيل الظل خطبته ليبدأ برنامج الأطفال، بدأ برنامج الأطفال بفيلم الكرتون، وما هو بالكرتون، إنه والله السمّ في الدسم .. وخلاصة القصة الكرتونية... أن البطل قط شجاع وذكي يدخل بنكا ويقتل مدير البنك وموظفيه ويسرق ملايين الدولارات ويفر بها إلى شواطئ جزر الهاواي، وهناك يعيش بقية حياته مع "القطّات" الحسناوات على موسيقى السمبا والويسكي، وهكذا ذهب موضوع خطبة الجمعة عن السرقة أدراج الرياح وترسخ لدى محمد أن السرقة طريق السعادة والفلاح".
    وعلى الأولياء الذين يهمهم مستقبل أولادهم أن يصرفوا أبناءهم عن مشاهدة هذه الأفلام، حتى لا ينحرفوا وهم ينظرون، وليعلم الأولياء أن تربية أولادهم على الدين وإبعادهم عن الانحراف هو واجب ديني قال الله تعال: " يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ".
    وترك الأطفال عرضة لمخاطر التلفزيون ينال من دينهم وأخلاقهم ويدنس فطرتهم الإسلامية، والآباء مطالبون بالحفاظ على هذه الفطرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يولد المولود على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
   وليعلم الآباء أن تتبع برامج "المفسديون"، تُعوّد الأطفال على الحرام فيصبح حلالا، وتجعل من المنكر معروفا، والولد كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي أمانة عند والديه، وقلبه الطّاهر جوهرة نفيسة، فإن عوّد الشر وأُهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق.
وما أجمل قول الشاعر:
           وينشأ ناشئ الفتيان فينا                   على ما كان عوده أبوه
           وما دان الفتى بحجا، ولكن               يعوده التدين أقربوه
وقال آخر
          قد ينفع الأدب الأولاد في صغر         وليس ينفعهم من بعده أدب  
         إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت         ولا تلين ولو لينته الخشب
   وختاما نقول إنه لو كان "المفسديون"، يطهر الناس من عيوبهم كما تقول "نظرية التطهير" لكان بإمكاننا إذاً أن نعرض جميع عيوب الدنيا في هذا الجهاز فيقوم بتطهير المشاهدين من عيوبهم وآثامهم الشيطانية، وعند المساء ينصرفون عن التلفاز، وهم ملائكة!!
  هذا كلام غريب في زمن الاستقامة، لكن في زمن "الشقلبة" هو نظرية علمية!! تضاف إلى قائمة "النظريات" الأخرى التي أنتجها اليهود والماسونيون كنظریات فروید ونیتش ودورکایم ودیکارت وداروین وماركس... وغيرهم ممن مُوّلوا ودُعّموا لإفساد البشرية، وخدمة مصالح بعض الأيدي الخبيثة.
   والحاصل من هذا كله أنه من المهم بمكان أن ينتبه علماؤنا ومثقفونا وطلابنا لما يستورد من "نظريات" فليست بالضرورة علما صحيحا سليما، لأن كثيرا منها يحتاج إلى مراجعة وتصفية وتنقية، بمرضها على المنهج العلمي الصحيح، الذي يبين صحيحها من سقيمها وغثها من سمينها.
   وسبحانك اللّهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليه.

 

 

 

تم قراءة المقال 50 مرة