فهذا "الفلولي" عمرو موسى الذي خرج علينا من الأرشيف، بعدما طلع على المعاش من إدارته الكارثية للجامعة العربية، كان يأكل على موائد مبارك والقذافي والأسد وبن علي وعبد الله صالح وآخرين... ما سُمع يوما ينبس ببنت شفة أمام أولئك الديناصورات الفاسدة بكلمة نُصح فضلا عن توبيخ، نعم! لم يكلمهم يوما عن مآسي مواطنيهم، ولم يستنكر فسادهم واستبدادهم وإجرامهم، لم يدافع ساعة عن حقوق الشعوب العربية المقهورة، وإنما كان دوما يركب في السيارات الفاخرة وينزل في الفنادق الباهرة ويحشو معدته بالملذات المنهوبة من كد الشعوب الخائرة...
بقي سنوات طويلة على سُدة وزارة خارجية فرعون مصر، ينافح عن نظام بل عظام متعفن، لم يُشر ولو بطرف خفي إلى فساد مبارك وأولاده، ولم يفتح فاه بكلمة ضد تزوير الانتخابات وطغيان الحزب الوثني، وتركيع الشعب المصري وإذلاله...
وها هو اليوم، وهو صاحب الرواتب والعلاوات الخيالية التي بلغت، حسب تقارير رسمية، خمسين ألف دولار شهريا، عدا الامتيازات الأخرى، لا يستحي من نشدان العدالة الاجتماعية في مصر، يطلب ممن نُهبت خزانتهم على أيدي عصابته أن يَعدلوا في توزيع الثروات على الشعب!!!
فيا سبحان الله! وماذا بقي من الثروة في الخزينة حتى تُوزع؟ وهل تركت زبانيتك درهما لم تدفع به إلى أرصدة خاصة في البنوك الأجنبية!؟ ويا ليتكم تركتم للمصريين خزينة فارغة، ولم تكدسوها بالديون التي لن تخرج منها البلاد إلا بعد عقود وعقود من الشقاء.
هذا هو عمرو موسى باختصار، ولو كان الأمر بيد الشعوب العربية لحاكمته على كل حق سكت عنه ترضية لجزاريها، ولو كان القضاء قضاء لسيق إلى السجن، جزاء وفاقا عن كل جلسة مع المتآمرين على دين وحاضر ومستقبل الأمة، بعدما كان متآمرا فاعلا في تدمير ماضيها القريب.
لكنني في الحقيقة لا ألومه، فهو يعرف من أين تُؤكل الكتف، وإنما ألوم المسلمين، خصوصا السلفيين المصريين، أصحاب الأيدي النظيفة والقلوب الطاهرة، كيف وافقوا على أن يكون هذا الآدمي عضوا في الجمعية التأسيسية للدستور، حيث كان دوره بارزا فيها في التعطيل والتشويش والمكر بالمشروع الإسلامي، حتى لا ينفذ جزء منه إلى الدستور... لقد نجح هو وأتباعه في اللجنة التأسيسية في وضع العقبات أمام البنود التي تشير صراحة إلى الشريعة، فلما أُقرت بعض ملامحها على استحياء، أمره رؤساؤه المباشرون في إسرائيل بالانسحاب منها، فهكذا كانت تفاصيل الاتفاق الخبيث منذ الوهلة الأولى في الغرف المغلقة، "إذا كان الدستور علمانيا ادعموه، ولا ضير أن يكون فيه الإسلام دين الدولة، ولا بأس كذلك بمبادئ الإسلام الفارغة من أي معنى أو مضمون أن تخط في طياته"، لكن إذا تجاوز الأمر ذاك الحد، فالتعليمات أُعطيت للعلمانيين والكنيسة بالانسحاب، وحتى يكونوا في مأمن من أي سوء تقدير للحسابات، فقد كانوا على دراية بالخطة البديلة التي حُبكت في المحكمة الدستورية لإلغاء التأسيسية عند الضرورة.
أما محمد البرادعي، المناضل بدرجة خمس نجوم، هذا النمس "صاحب الجنسية النمسوية"، فقد جاء من الغرب ليبكي على الشعب المصري الذي يقتات بعضه من الزبالة، وعلى سكان العشوائيات والمقابر، جاء ليدافع عن قوت الفقير وراحة الفلاح والعامل والبطال، وسمعته يتحدث عن كرامة المواطن المصري وحقوقه المسلوبة ومشاكله المتفاقمة...!! وقد نسي أنه هو من دمر الشعب العراقي وشتت شمله وأهلك حرثه ونسله وخرب بنيانه واقتصاده، بتقاريره عن الأسلحة النووية التي لم يُعثر لها على رائحة إلى حد اليوم، ألم تكن تقاريره المشؤومة هي التي دفعت الصليبيين إلى حصار أطفال العراق فمات مئات الآلاف منهم بنقص الدواء والحليب والماء، ثم خُتمت المأساة بحرب أكلت الأخضر واليابس، وإحلال حكم طائفي نتن يتجرع مرارته أهل السنة هناك إلى حد اليوم!؟
لو كان هذا الآدمي رجلا لكان على الأقل استقال من منصبه أو طلب الإعفاء من قضية العراق، لكونه –مسلما؟- وسيحكم على شعب مسلم –مثله؟- بكل تلك الكوارث، وإذا كان لم يجد بُدا من ذلك، حيث كانت مسؤوليته تجبره على مواجهة السلاح النووي أينما وُجد، فنحن نسأله أين هي تقاريره عن الأسلحة النووية الإسرائيلية، وهذه الأخيرة، بعكس العراق، تعترف بامتلاكها عشرات الرؤوس النووية واستعدادها لتمحو بها دولا من الخارطة؟
وبعدما منحوه، هو ومؤسسته، التي عمل بها جائزة نوبل للسلام، امتنانا وعرفانا بتدمير دولة مسلمة وشعب مسلم على يد خبير خبيث –مسلم؟-.... حان دور مصر لتنال حصتها من شره، ويبدو أنه انطلق بحماس في مهمته القذرة.
لم أر يوما شخصا بهذه الحقارة!... كيف استعدى الغرب بأسره على المصريين، حينما رفض وضع يديه في أيدي الإسلاميين والمسلمين، لأنهم ـ حسب اتهامه لهم في صحف غربية ـ يُنكرون المحرقة اليهودية ولا يعترفون بالهولوكوست!!!
إنه يعرف بدقة عاقبة من ينكر تلك المحرقة، وعلى وعي تام بمقدار الحقد والكره والعداوة والضغوط الذي سيجلبه على رؤوس من يشكك في تلك الحادثة التاريخية، التي لم يكن للمسلمين فيها يد، فقد كانت قصة صليبية ـ يهودية بامتياز، ومع ذلك يستقوي البرادعي بالخارج الهولوكستي ضد إخوانه في البلاد والدين، كان يروم الإضرار بهم أيما إضرار، ليُنبذوا ويحاصروا ويُدمروا، وقد صدّقه الغرب الصهيوني الذي بدأ يعاقب مصر ويكيد لها، فهل رأيتم حقارة أبشع من هذه!؟
ولَيتَه توقف عند هذا الحد، فهذا المهوس بالاستقواء بالخارج، من كارهي الأمة وأعداء مصر التاريخيين، لما علم أن الشعوب والدول والحكومات الآسيوية لا تكترث كثيرا بمن ينكر الهولوكست النازي، اخترع لها هولوكوستا بوذيا، فنراه في تصريح حقير يتهم إخوانه في الوطن بأنهم يُفصِّلون دستورا اقصائيا لا ينص على حق البوذيين في مصر!.
إن البرادعي وأصحابه من المدرسة اللادينية ترى أن مجرد الإشارة إلى الشريعة الإسلامية في الدستور والقوانين، هو في حد ذاته تمييز ضد الشرائع الأخرى، بما فيها شرائع عُباد البقر والشجر والحجر، بل إن أحد أتباع البرادعي، وهو أستاذ العلوم السياسية العلماني حسن نافعة، اعترض على ورود كلمة أهل السنة والجماعة في البند 219 من الدستور الجديد، الذي يربط مبادئ الإسلام المذكورة في المادة الثانية بمذاهب أهل السنة والجماعة، وقال بالحرف الواحد: "إن هذا تمييز ضد المذاهب الإسلامية غير السنية"، ولم يخجل أن يقول هذا الكلام السخيف على قناة الناس، قناة أهل السنة والجماعة!
هذا هو البرادعي باختصار، ومع أنني لست مصريا، فقد صعقت لما علمت بحقارته "الهولوكستية" المتآمرة على إخواننا في مصر، ولا يسعني إلا أن أقول له: إن مصر أشرف من أن يكون مثلك مواطنا فيها، لأن المصريين رجال، أما أنت فقد أثبت بـ "هلوكستيتك" أنك "منتاش" رجل.
أما الفاشل الثالث فهو صباحي سليل الدكتاتورية الناصرية وخريج مدرسة القومية العربية التي أضّرت بالعرب وبالمسلمين أكثر من أعدائها المعلَنين... ما ينفك صباحي منذ فشله في الانتخابات، يردد خطاب فقدان الرئيس المنتخب مرسي شرعيته، لأن مدرسة صباحي لم تؤمن يوما بما تفرزه الانتخابات، فالشرعية في معتقده القومي أو الناصري لا تُمنح إلا بالانقلابات، على غرار شرعية عبد الناصر المنقلب على الملكية وعلى رفيقه في ضباط الأحرار محمد نجيب، الشرعية لا تكون شرعية إلا إذا انتهجت طريق صدام حسين والقذافي والأسد، الشرعية عند صباحي هي أن يصل القومي إلى السلطة بالقوة، ويبقى فيها بالقوة، ولا يغادرها إلا بالقوة...
وبعد كل ما جرّه الناصريون والقوميون على الأمة من تخلف وفساد ودمار اقتصادي وهزائم عسكرية وخيانات..، دخلوا في لعبة تمويه الأسماء فأطلقوا على مدرستهم تسمية التيار الشعبي الذي ينشد العدالة الاجتماعية، وليت شعري! من منع صباحي أن يدعو إلى العدالة الاجتماعية في العراق إبان استبداد سيده صدام، الذي كان يكرمه أيما إكرام بأموال الشعب العراقي المنهوبة، ولماذا لم ينادي بالحرية والمساواة لليبيين إبان دكتاتورية صديقه القذافي؟ ولماذا لا يزال هو وأتباعه يستميتون في الدفاع عن الأسد علنا، ويتهمون الشعب السوري بأنه متآمر على القومية العربية وعلى الصمود العربي...!!!
يا صباحي! أنت فاشل، وانتهازي، ومصاص لدماء الكادحين باسم العدالة والحرية والمساواة، وإلا قل لي كيف تقف مع جبهة إنقاذ رموزها هم ممن تآمر على إسقاط صدام والقذافي والأسد...؟
وكيف تتحالف مع رموز البرجوازية والرأسمالية التي لا تهمها العدالة الاجتماعية والتي جمعت أموالها من فساد العهد البائد؟
الجواب هو أنكم تحالفتم لأنكم تلتقون جميعا على هدف واحد، هو حرب الإسلام، وإجهاض مشروع الشريعة في مهده.
هذه هي المهمة القذرة التي أوكلت لجبهة الإنقاذ وأنصارها، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مرورا بالكنيسة، بعد رحيل أو ترحيل لمبارك... وأريد من المسلمين في مصر أن يعودوا بذاكرتهم إلى الأيام الثمانية عشر "للثورة" التي ذهبت بمبارك، ألا تستغربون أن مصر وهي أكبر دولة عربية وربما إسلامية، بموقعها الجغرافي الخطير ومقوماتها الجيو استرتيجية.... يمكن لثوارها أن ينجزوا ثورة عميقة في ذلك الوقت القصير جدا، بلا خسائر كبيرة مقارنة بدول أقل شأنا منها!!!؟
أرجو من المسلمين أن يعيدوا التفكير في مواقف ذلك الكم الهائل من المسؤولين الغربيين وعلى رأسهم أوباما الأمريكي، الذين أظهروا المعارضة الشديدة لبقاء مبارك في السلطة، وهو من هو في خيانته وعملاته وخدمته لهم ولربيبتهم إسرائيل؟
أليس في القضية غموض، أليس في الأمر شك؟
لقد كان الغرب بمخابراته ومراكزه البحثية يعرف تفاصيل التفاصيل عن الحركة الإسلامية المصرية، وعلى قدرتها على الفوز بأي استحقاق انتخابي، ومع ذلك وافق هذا الغرب على هذا السيناريو، الذي يزيل عميلا لهم ليستبدله بالإسلاميين وهم الأعداء الأيديولوجيون للغرب!!؟
قد يقول البعض إن بقاء الجيش على الحياد هو الذي سرّع من سقوط النظام!، نعم الجيش بقي على الحياد، لأنه لم تُفرض عليه الضغوط ليسحق الثوار... وهذه هي الخطة، أن يصل الإسلاميون إلى السلطة شكليا، ثم تُصب عليهم المخططات التعجيزية والتفشيلية من كل جانب صبا، من الخارج والداخل، من أمثال جبهة الإنقاذ والفلول وأعداء الإسلام من بعض الإعلاميين المغرضين وبعض القضاة الفاسدين وبعض رجال الأعمال المرتشين وبعض الأمنيين الكائدين، ثم تأتي الضربة القاضية باختلاف الإسلاميين فيما بينهم، وأخيرا يعود الجيش المنقذ مرة ثانية إلى المسرح بعد أن تدب الفوضى.
أدعو المسلمين في مصر إلى التأمل في ثورة يُسجن فيها النظام، ويُحَيد فيها الجيش، ويتبخر فيها جهاز الشرطة المرعب، ويدعمها الغرب....، ويحدث كل هذا في أسبوعين في أعرق وأكبر وأهم دولة في المنطقة!!!
ثمة في هذا الشأن مقولة فرنسية: "c’est trop beau"، ومعناه أن الأمر أجمل من أن يُصدق، نعم إن الأمر دُبّر بليل، والتغيير الذي يريده الغرب في مصر هو الخروج من الفوضى والفشل والرداءة والتخلف وعدم الاستقرار والتبعية للغرب... والدخول فيما هو أشد منه، إنه تغيير من السيئ إلى السيئ، إنه كما يقول مرة أخرى الفرنسيون: Changement dans la continuité، ومعناه التغيير لكن في إطار الاستمرارية.
قد يتهمني البعض بأنني مستسلم لنظرية المؤامرة، فأجيبه بأن كل من لا يؤمن بنظرية المؤامرة ضد العالم الإسلامي وضد مصر هو إما أحد المتآمرين، أو متآمر ضد نفسه وهو لا يشعر، من أمثال أولئك المصريين المتعطشين لأي انتصار ولو كان وهميا، والذين يُصرحون بأن "الثورة المصرية هي أعظم ثورة في تاريخ البشرية"، أو: "إن الثورة المصرية ستُدَرس لقرون طويلة في المعاهد والجامعات العالمية"...!!!
أما إذا عدت إلى حال الإسلاميين، فالإخوان على وعي بكل ما قلته، وهم يريدون بإخلاص لكن عبثا تصديق أنفسهم بأنهم سيقيمون، في معمعة هذا المخطط المعادي لهم، نهضة وأنهم سيؤسسون لدولة تنافس الشرق والغرب، إذا ما أرضوا المتآمرين ببعض التنازلات، ولو سلكوا من أجل ذلك مخالفات شرعية وأبرموا صفقات قد لا تتفق مع توجه الحركات الإسلامية العاملة معها في الساحة، وهؤلاء هم الإخوان، كما عرفناهم منذ نشأتهم، أصولهم الإسلامية لا تُرضي العلمانيين، وتمييعهم لبعض تلك الأصول لا يُرضي السلفيين، فهم بين سُخطين لن يفلتوا منه مهما تشددوا أو تنازلوا.
أما السلفيون، الذين أتشرف بالانتماء إلى دعوتهم، فهم في تخبط منذ ولجوا، على غير عادتهم السياسة، وإن تحزبهم سيضر بدعوتنا، لأن أخطاء السياسيين المحسوبين علينا، لن تحسب عليهم وعلى حزبهم وإنما على منهجنا ودعوتنا، بل إن التنافس على الكراسي والمناصب، ولو كان بحجة إقامة الدين، سيثير حفيظة الجميع، وسيعتبروننا كغيرنا من السياسيين طلاب سلطة باسم المنهج السلفي والدعوة السلفية، مما سيدفعهم لمعاداة ذلك المنهج وتلك الدعوة، فيضيع رأسمالنا الدعوي وسمعتنا بين الناس وبين المتهافتين على الكراسي.
ثم أين المصلحة في الدخول في منافسة مع الإخوان، ونحن نعلم مسبقا أن منافستهم ستؤول حتما إلى شحناء وبغضاء وكراهية وصراع على الفضائيات، وصدام في حملات الانتخاب والى تكتيكات غير شريفة في الكواليس؟ وأنا أعرف التيارين السلفي والإخواني بما فيه الكفاية، لأقول إن المستقبل التنافسي بينهما في مجال السياسة سيكون فُرجة دراماتيكية تسر المتآمرين، وقد بدأ شرر السياسة يصيبنا بأمراضها من استحلال الافتراء والحقد والغيبة والتنابز وكشف الأسرار، جهرا على الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى. وهذه هي البداية فيا هول النهاية!!
وقد قال أحد السلفيين السياسيين مؤخرا: إن التراشق بين السلفيين والإخوان على الفضائيات أمر صحي، لأننا نريد بانتقادنا للإخوان أن يعرف التيار العلماني أننا نحن الإسلاميين لم ننتخب دكتاتورا، وأننا نريد ترسيخ ثقافة النقد والاختلاف مع من في السلطة"!!!
وأرى، بكل تواضع، أن تأسيس السلفيين في مصر لأحزاب سياسية خطأ استراتيجي، وقد يدّعي البعض أن اختلاف الرؤى وتعدد وجهات النظر أمر طبيعي لا يمكن تفاديه، وهذا أمر صحيح لكن لا يجب أن يصل ذلك إلى حد تفريخ الأحزاب، وتحويل الساحة الإسلامية إلى جماعات متشرذمة تتراشق على القنوات، وتفضح بعضها بعضا على الصحف والمجلات، ولا يستدعي بالضرورة الاختلاف في الرؤى تأسيس أحزاب جديدة، فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي تجاوز عدد سكانها 350 مليونا، وبكل تنوعاتها الفكرية والسياسية لا يوجد بها في الواقع إلا حزبان الجمهوري والديمقراطي، والجمهوريون بينهم اختلافات كثيرة لكن تبقى خلافاتهم في الإطار العام للحزب، وكذلك الأمر بالنسبة لحزب الديمقراطيين، وهذا شأن بريطانيا وفرنسا وايطاليا وكندا واستراليا واليابان، حيث لا تتجاوز الأحزاب الرئيسة فيها أصابع اليد الواحدة....
أليس الأولى بالإسلاميين أن يكونوا تحت راية واحدة على غرار الجمهوريين أو الديمقراطيين، وأن تكون كل الجماعات الإسلامية، ومنها الدعوة السلفية جماعة ضغط أو كما يطلق عليها لوبي قوي يضغط على حكم الإخوان بايجابية لدعم كل خير، وينصح بالمعروف لمنع أي شر، وأما أن ننافسهم وأن نُشعرهم بأننا أفضل منهم وأننا نسعى لإزاحتهم بإظهارهم بأنهم مجموعة من الفشلة، فهذا لم يكن قديما أو حديثا منهج علمائنا الربانيين.
إن مصلحة تنازل السلفيين للإخوان ليقودوا العمل السياسي الحزبي، أصلح للدعوة الإسلامية من تأسيس حزب عواقب خلافه مع الإخوان وخيمة على الحزبين معا، لنترك الإخوان وهم أصحاب خبرة براجماتية يخوضون هذا السبيل، ولندعمهم سياسيا في الانتخابات ولنساندهم بالنصح والبيان ولنُقَوِم بالحسنى عثراتهم، كلما خالفوا شرع الله، ولنشجعهم على التزام السنة والتخفيف من برجماتيتهم، ولنتفرغ نحن لدورنا التربوي والإصلاحي، وليس المقصود بالإصلاح الذي في المساجد بتصحيح التوحيد والعبادة والأخلاق فحسب، بل ليكن لنا وجود في الاقتصاد والقضاء والإعلام والنقابات والتعليم والعمل الخيري وجمعيات المجتمع المدني المباحة بلا استثناء.
صحيح أنه لن يكون حكم الإخوان المسلمين هو الخلافة الراشدة التي ننشدها جميعا، لكن لن يكون حكمهم أسوء من حكم العلمانيين من جبهة الإنقاذ وأشباههم، وقد علمتم حال تلك الجبهة، وإن الخطيئة الفادحة التي وقع فيها حزب النور في مبادرته الأخيرة والتقائه رموز جبهة الإنقاذ، ليس في المبادرة في حد ذاتها أو لقاء أولئك العلمانيين فقط، ولكن الأبشع من ذلك تصريحات مسؤولي حزب النور بأن "النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاور الأعداء والكفار، فكيف لا نحاور قادة جبهة الاتقاذ وهم ليسوا كفارا ولا أعداء، بل وطنيون، ومسلمون مثلنا"!!!
وهذه تزكية مجانية قدمها السلفيون في حزب النور لمن لا يستحقها، فإذا لم يكن الانقاذيون المحاربون لمشروع الشريعة هم الأعداء، فمن إذن!؟ وإذا لم تكن تصريحات بعض رموز الإنقاذ الساخرة من الدين والمتهمة إياه بالرجعية والتخلف والقسوة وظلم المرأة والأقليات... خروجا من الملة فأنا أنصح إخواني في حزب النور بمراجعة بعض أبواب الإيمان في كتب العقيدة، كما أنه ليس مقبولا كلام بعض السياسيين السلفيين الذين يتجاوزون مبدأ الولاء والبراء، عند حديثهم عن الشراكة الوطنية وحب مصر مع جميع فصائل البلاد، وهم يعلمون أن قادة الإنقاذ يسعون لإسقاط مصر وإحراق مصر وتدمير اقتصاد مصر، وإن اجتماعهم وتخطيطهم العلني مع سفراء دول غربية معادية لمصر ولدينها دليل على ذلك، ثم يجب أن يعلم إخواننا السلفيون، وهذا في جميع بلدانهم، أن ضرورة التعامل مع الآخر في الوطن لا يجب أن ينسينا أن الدين قبل الوطن، فالأوطان مهما أحببناها وأخلصنا لها لا يمكن أن تكون ربا من دون الله ولا بديلا عن شرعه، ونحن أُمرنا أن نعبد رب الأوطان لا الأوطان.
أما مشايخنا السلفيون ـ بارك الله فيهم ـ الذين اجتهدوا فاجتمعوا مع جبهة الإنقاذ، فقد طعنهم الإنقاذيون من الخلف، فلم يكد اجتماعهم ينفض حتى دعوا إلى الخلاص من حكم الإسلاميين والنزول إلى الشوارع، بما جلبه ذلك من عنف وتقتيل… وخرج بعض منظريهم على غرار المدعو خبيرا إعلاميا ياسر عبد العزيز على قناة أورينت Orientيحذر جبهة الإنقاذ من التقارب مع السلفيين لأنهم أسوء من الإخوان، ولأنهم يسعون إلى تأسيس دولة دينية ثيوقراطية يحكمها العلماء.
وأكثر من هذا وذاك فهم لن يهدأ لهم بال حتى يلغوا الشريعة من الدستور والبلاد، إنهم لن يتغيروا، وبدل أن نُفَلِّسَهم أمام الشعب والأمة نزيد من رصيدهم الخبيث بتزكيتهم وتبييضهم، وهذا الأمر قد يكون ذا أثر عكسي على الدعوة وعلى الإسلام مستقبلا، خصوصا أن الإنقاذيين يستثمرون تلك اللقاءات ثم يزايدون على الفضائيات بأنهم مسلمون وأنهم ليسوا ضد تحكيم الشريعة، بل من المضحك أن أحدهم أعلن رفضه للطوارئ وحظر التجوال في مدن القنال، لأن هذا الإجراء يمنع الناس من صلاة الفجر في المسجد!!!!
فدعوتي لمشايخنا الذين نجلهم ونحبهم ألا يريقوا بعد اليوم ماء وجوههم بمسألة من لا ماء في وجوههم. فإن الإنقاذيين لن يتغيروا، لقد صُنعوا ليُجهضوا مشروع الشريعة، وليَجلبوا إلى مصر الضلال والفوضى والفشل والخراب، إنهم مكلفون بمهمة قذرة، قد تؤدي قريبا إلى حرب أهلية أو انقلاب عسكري أو تدخل أجنبي، وإن الحوار معهم أو تزكيتهم لن يقومهم بل يشجعهم على البقاء على طبيعتهم، وأتذكر أنني تعلمت قبل أكثر من عشرين سنة مثلا عربيا من الشيخ محمد إسماعيل المقدم في أحد دروسه لما زرت الإسكندرية، وهو أن "تهذيب الذيب من التعذيب"، فكما أن أي محاولة لتدجين الذئاب هو تعذيب لها ولمربيها، لمخالفة طبيعتها، فكذلك الرهان على وطنية جبهة الإنقاذ وتدين بعض أفرادها عبثية وسذاجة.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فبعد زوال مبارك ونجاح الإسلاميين في الانتخابات، نُقلت عبر الإعلام كلمة لشيخنا محمد إسماعيل المقدم، يقول فيها لبعض الشباب السلفي،: "إن ما حدث في مصر هو أن الإسلاميين نزلوا على رأس جبل التمكين"، ويقصد طبعا التمكين للدولة الإسلامية، لكن واقع مصر اليوم يُظهر شيخنا الجليل بأنه متفائل كعادته، لكن هذه المرة تجاوز تفاؤله حد المعقول، فالواقع المصري ـ كما أشرت ـ بأحداثه المتتالية ونكباته المتوالية وأزماته المتتابعة ينبئ بأن الإسلاميين أقرب إلى سفح جبل التمكين من رأسه.
ولا أريد أن أظهر بمظهر التلميذ الذي يعرف أكثر من شيخه، إلا أنه الأجدى الآن بدل أن نقول: إن السلفيين نزلوا، بعد سقوط مبارك، على رأس جبل التمكين، أن نقول: إن السلفيين، بعد سقوط مبارك، نزلوا على رأس جبل الدعوة، لذا فأقصى ما أنصح به إخواني في مصر وفي العالم الإسلامي أن يسعوا إلى أن يُخلّى بينهم وبين الناس، وإنني أتوسل مشايخ الدعوة السلفية أن يحلوا الأحزاب السلفية قبل فوات الأوان، وأن يبدؤوا بحشد الجهود ودفعها نحو تغيير الظروف التي تحول حاليا دون الحكم الرشيد، أما اليوم فلا تستعجلوه كي لا تُحرَموه، وانتبهوا إلى حجم التحديات، ولا تغتروا ببعض المكتسبات الانتخابية الشكلية، واحذروا من أن يُلقى بكم من رأس جبل الدعوة لتهووا في سفح قعر السجون تارة أخرى، لأن معركة "سقوط مبارك" لم ولن تنتهي إلا بقيام الساعة.
واعلموا أن الظروف غير مواتية لحكم إسلامي رشيد في مصر وفي غيرها من البلاد الإسلامية، فالشعوب لا تزال في سكرة الشهوات والإخلاد إلى الأرض وعبادة المال، وفشو الأمية والجهل بالدين والبدعة والخرافة، وسطوة الشبهات وتنامي الوثنيات القديمة والمعاصرة، وقلة الإيمانيات وضعف الوازع الديني، وخلاء القلوب من الروحانيات وانحطاط الأخلاقيات، ومعاداة الدين والسنة، وانعدام عقيدة الولاء والبراء، وانتشار القيم السلبية والكسل والفساد والفرقة والخلاف والظلم، والضعف المعنوي والمادي أمام المتآمرين في الداخل والخارج....
وعلاج كل ذلك عند السلفيين، بما وهبهم الله من علم وإخلاص وحكمة ووسطية واستقامة على الجادة، لقد صنعهم الله على عينه ليكونوا دواء للأمة، فما بال بعضهم يستعجل التسلق إلى رأس هرم السلطة أو يُضيع وقته في دهاليزها المعوجة، متجاهلا كل تلك الظروف غير المواتية، علاوة على انشغاله عن أصل منهجه وهو الإصلاح والتربية والدعوة الشاملة!؟
إن جماعة الإخوان المسلمين التي وصلت شكليا إلى السلطة، وأقول شكليا، لأنها لن تحظى بالسلطة ما لم تحظى بولاء قيادة الجيش والأجهزة الأمنية، وإن رفض هذه الأخيرة حتى انضمام الملتحين إلى صفوفها ومن بحوزتهم أحكام قضائية دليل على ذلك، إن جماعة الإخوان ومع كل ما تملك من طبيعة متساهلة إلى حد التمييع في بعض القضايا الدينية، إضافة إلى برجماتيتها السياسية، التي نراها في التنازلات ومحاولات التقرب من التيار العلماني، إلا أنها لم تنل رضاه، بل لم يزدد ذاك التيار العلماني المحلي والعالمي عليها إلا نقمة، حتى أضحت تلك البرجماتية ذات مفعول عكسي، إذ صار أعداء الإخوان يصفونهم بالنفاق السياسي وبأنهم غير متناسقين حتى مع أنفسهم....
فهل يستطيع السلفيون أن يحكموا بديلا عن الإخوان، وهم ممن يؤمنون بعدم جواز التنازل قيد أنملة عن أصل من أصول الكتاب والسنة في ممارستهم للسياسة؟
والجواب هو لا، ليس لأننا نحن السلفيين غير أكفاء أو تنقصنا العقول والسواعد، وإنما ضوابط منهجنا ودعوتنا لا تسمح لنا بالمشاركة في اللعبة الديمقراطية، مهما ادعينا بأنها مجرد آلية وليست غاية، صدقوني نحن السلفيين لا ننفع في السياسة، ولا نعرف نلعب سياسة، وإن محاولة بعض السلفيين في بلدي خوض غمار السياسة انتهت بمأتي ألف قتيل وبتقهقر الصحوة السلفية إلى عصر الدولة البيزنطية.
لا، لن يمكن لسلفي أن يحكم في هذه الأوضاع، إلا إذا تنازل عن سلفيته و"تعلمن" قولا وعملا، وقد بدت بعض بوادر ذلك فيمن ولج ذاك المسلك في مصر وفي غيرها، إلا من عصم الله، وسترون ذلك والأيام بيننا، والمثل الشعبي اللبناني يقول: "اللي يجرب المجرب عقلو مخرب".