قيم الموضوع
(0 أصوات)

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين أما بعد : فإنه كثيرا ما تختلط المفاهيم على الشباب المتعلم خاصة ذلك الذي تزامنت نشأته مع ردود فعل قوية ضد فكرة من الأفكار أو عقيدة من العقائد، فإنه لأجل ذلك لا تتحرر لديه المسائل جيدا، وقد ينتقل من طرف إلى طرف ويقابل الإجحاف بالغلو.

 

بين التمذهب والتعصب المذهبي


   ومن الأمور التي عرفتها الصحوة الإسلامية الحديثة بعث حركة الاجتهاد وتحرير الفكر والنظر، والدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة باعتبارهما المصادر الأصلية للدين، وإنه لما رأى بعض الشباب تلك الهجمات التي شنها العلماء المجددون المتأخرون على الجامدين والمقلدين المتعصبين المحرمين للنظر والاستدلال والموجبين للتقليد فهموا أن التمذهب كله معصية وضلال وخروج عن منهج السلف، حتى صار منهم من صار يحكم بالضلال على كل أحد من غير مراعاة لمكانة المحكوم عليه، ولا لوجهة نظر هؤلاء العلماء ولا للحال الغالبة على الأمة، ولازم قول هؤلاء النفر تضليل أكثر العلماء المتأخرين والمعاصرين الذين تمذهبوا بحكم الحال الغالبة على أهل العصور المتأخرة، ولكون التمذهب صار هو طريق تعلم الفقه ولا طريق غيره في البلاد جميعها تبعا للمؤلفات الموجودة وللعلماء المدرسين لمادة الفقه، والمقصود بالتمذهب هنا التزام الدراسة على أحد المذاهب الأربعة.

   ولا يشك عاقل أن مجرد دراسة الفقه على مذهب واحد، نظرا لما ذكر أمر مرخص فيه عند الأئمة المجددين، بل هو مرخص فيه عند جميع الناس لكل عاجز عن النظر، إذا خلا عن الإلزام والتعيين لأحد من الأئمة المجتهدين، وإذا دعا المجددون إلى تحكيم الكتاب والسنة وفهم السلف في مسائل الخلاف، فإنما ذلك بالنسبة لمن تأهل وحصل آلة الاجتهاد، ولو بصفة جزئية فيما يقبل التجزئة من آلته، ولا يعنى ذلك بوجه من الوجوه إلغاء المذاهب الفقهية أو توقيف حركة التعليم والتدريس بما هو موجود إلى أن يقتنع الجميع بضرورة التجديد في المنهج التعليمي، وإلى أن توجد المراجع الفقهية المستقلة في هذا الباب، وكذا المشايخ المؤهلين لتدريس الفقه وفق منهجية حديثة مستقلة عن كل مذهب.

   كما أن دعوة المجددين لا تعني أبدا فتح الباب للتطاول على العلماء الكبار الذين رسخت قدمهم في العلم وفي خدمة الإسلام والمسلمين، ولا تعني تسويغ التعالم وتشبع المرء بما لم يعط حتى أصبح المبتدئ يرفع من شأن نفسه ويحط من أقدار العلماء لأجل فتوى أو فتاوى خالفوا فيها السنة، وقد تكون السنة التي يزعمها مبنية على حديث الخلاف فيه قائم منذ عصر الأئمة المجتهدين وسيبقى كذلك إلى قيام الساعة، والمبتدئ الذي لم يدرس الفقه من أوله إلى آخره يظل مبتدئا ولو مر على انتسابه إلى سلك طلبة العلم عقود.

    والذي ينبغي أن يعلم أن ثمة بونا شاسعا بين مجرد التمذهب المرخص فيه وبين التعصب المذهبي المذموم بإطلاق، فإن هذا الأخير إنما يعني اعتقاد عصمة الإمام المقلَّد والقول بوجوب تقليده دون غيره من الأئمة وعقد الولاء والبراء في مذهبه ومعاداة من خالفه، أو التجرؤ على رد دلائل الكتاب والسنة الصحيحة الصريحة بأقوال فقهاء المذهب، والإنكار على المتأهلين إذا سلكوا منهج الاستدلال على المسائل وعدم الالتزام بمذهب معين في الفتوى، فهذه هي الأمور التي ينكرها المجددون ويصفونها بالبدعة الضلالة لا مجرد التمذهب في مرحلة التحصيل والطلب، أو التزام المذهب فيما لا نص فيه من المسائل الدقيقة، ونختم هذه المقالة بكلمة مضيئة للشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله تعالى تؤكد الحقيقة التي أوضحناها وتبين الفرق بين التمذهب والتعصب، حيث قال في كتابه حكم الانتماء (104-105):" فإن اختلاف المذاهب الفقهية الأربعة لا يُعَدُّ فرقة، فإذا أثار تدابرا صار التقاطع والتدابر في ذلك بدعة إضافية، فالاختلاف والحالة هذه جائز بحسب وسع المجتهدين والتدابر لا يجوز ، أما إذا حال التمذهب دون الرجوع إلى الدليل من الكتاب والسنة وتحكيمهما صار بدعة حقيقية لأن الله يقول : ] فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً[ (النساء59)"اهـ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

تم قراءة المقال 5663 مرة