واستمر الحال على ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث لا يزال المسجد في عصر الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، يعتبر المدرسة التي يتخرج منها الرجال الذين يحملون أعباء الدين على عواتقهم من فقهاء ومحدثين وخلفاء ومجاهدين، بل كان معهدا لتكوين كل المسلمين عقائديا وخلقيا، إذ كان مقر صلاتهم ومحل تعليمهم أمور دينهم ودنياهم.
ولكن مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال بدأ دور المسجد في التربية والتكوين يتقلص، حتى صار دوره في نظر في كثير من الناس محصورا في أداء الصلوات والشعائر التعبدية فحسب وهذا نظر قاصر، ومن أثر ذلك أن أصبح الأئمة والمعلمون في المساجد يترجون الآباء رجاء حثيثا حتى يسجلوا أولادهم في المدارس القرآنية، رغم أن دور المسجد في الوعظ والتذكير وتصحيح العقائد، والحث على محاسن الأخلاق أمر لا يخفى على ذي بصيرة، كما انفراده بأداء واجب تعليم القرآن معلوم أيضا.
المطلب الأول: حث الشرع على الإتيان بالأولاد إلى المسجد
وقد حث الشرع على الإتيان بالأولاد إلى المساجد، ومما يدل على ذلك:
1- وكَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا([1]).
2-عن شداد بن أوس قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا قَالَ أَبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ قَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ([2]).
3-وعن أبي بكرة قال رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ([3]).
4-وأما حديث أبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ قال أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَفَّ الرِّجَالَ وَصَفَّ خَلْفَهُمْ الْغِلْمَانَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ فَذَكَرَ صَلَاتَهُ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا صَلَاةُ أُمَّتِي([4]). فهو على شهرته ضعيف السند وقد يشهد له قول ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ([5]).
المطلب الثاني : دور المسجد التربوي
ويظهر دور المسجد التربوي في عدة نقاط منها :
أولا : التعويد على الصلاة والعبادة
وإن من أهم واجبات المربي أن يُعوِّد ولده على الصلاة، ومن فرَّط في هذا فقد ضيع الأمانة وإن أنفق على ولده ما أنفق، وبذل في سبيل تربيته ما بذل، وإن من أعظم تعويد الابن الذكر على الصلاة اصطحابه إلى المسجد لإقامة الصلاة إذا عقل إذا كان والده حاضره، وأمره بذلك إذا كان الوالد غائبا.
ثانيا : التثبيت على الطاعة وتقوية إيمان
وفي المسجد يلتقي الولد بالجماعة المؤمنة، ويتعرف على الرفقة الصالحة، وفيه تتكون الصدقات وتتمتن العلاقات، ويجد الولد من يعينه على العلم والأخلاق الفاضلة، كما يجد القدوة الحسنة ، وخلاصة فائدة مل ذلك تقوية للإيمان وتثبيت للولد على الطاعة، وإن يد الله عز وجل مع الجماعة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:« وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»([6]) أي التي تبتعد عن القطيع، وكذلك الشيطان لا يستولي إلا على من ابتعد عن الجماعة الصالحة.
وإننا نرى كثيرا من الآباء يَحرصون على تقوية أبدان أبنائهم ويغفلون عن قوة إيمانهم، فيسجلونهم في النوادي الرياضية على حساب التسجيل في المدرسة القرآنية، ولعلهم يسجلونهم في نواد تكون سبب انحراف الطفل نظرا لعدم المحافظة على الصلوات فيها، أو لانحراف المدربين أو لوجود الاختلاط أو الرفقة السيئة، وقد تعجبنا طويلا ممن يفعل ذلك بأبنائه، فلما رأينا من يسجل بناته في هذه النوادي المنحرفة أصابنا الخرس ولم ندر ما نقول.
ثالثا: تعليم وتحفيظ القرآن
وفي المسجد يحفظ الطفل القرآن الكريم وهو كتاب العقيدة والأخلاق وكتاب لغة وتقويم للسان، وإن أدنى الوجبات الدعوية التي تقوم بها المساجد أن تحفظ القرآن، وأن يسهر القائمون عليها على إيجاد حلقات التحفيظ لجميع المستويات مع التركيز على فئات الصبيان والشباب ، لأن الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر ، ولأن الأولاد في هذه الأعمار هم في مراحل بناء الشخصية واكتساب الأخلاق ، فلا بد من الاعتناء بهم أكثر .
ومسؤولية إيجاد هذه الحلقات القرآنية في كل مسجد تقع على إمام المسجد وكذا على جماعة المسلمين، وكما تتضامن جماعة المسلمين من أجل بناء المساجد عليها أن تتعاون أيضا من أجل تعميرها بحلق تحفيظ القرآن ودروس العلم. وبدل الاعتناء بجدران المساجد وزخرفتها على الجماعة أن تفكر في إنشاء المرافق التعليمية الضرورية كأقسام الدراسة والمكاتب.
وفي زمننا هذا قد زهد كثير من الآباء في تحفيظ القرآن لأولادهم حتى وُجِد في بعض الجهات من الأولاد من لا يحفظ الفاتحة!! ومن لا يدري أين هي المعوذات؟ فعلينا أن نسعى إلى تصحيح هذا الوضع الشاذ، وأن نضع نصب أعيننا أن تحفيظ بعض القرآن لأولادنا من أوجب الأمور علينا.
رابعا : التفقه في الدين
ومن مهام المسجد الأساسية تفقيه المصلين وعموم المسلمين في أمور الدين، قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في المسجد مجالسه العادية للتعليم، فكان يتخولهم بالموعظة الحسنة، وإذا دعت الحاجة وضع المنبر وصعد عليه وأمر ونهى ونصح وبيَّن.
ففي المسجد تُعلَّم العقيدة والأخلاق ولا يوجد في زماننا هذا (وفي بلدنا هذا) مكان آخر تعلم فيه هذه الأمور بصفة دائمة، ومنه فإنه يتحتم على الآباء تسجيل أبناءهم في حلقات المسجد واصطحابهم إلى دروس العلم المبرمجة فيه.
وبعض الآباء قد يظن أن المدرسة تُغني وهو مخطئ في هذا خطأ عظيما، لأن المدرسة لا تعلم العقيدة ولا تعلم الأخلاق، فقد أخليت برامجها عن كثير من المعاني للضرورية للأخلاق كما اكتفي في جانب العقيدة على معلومات ناقصة وسطحية لا تسمن ولا تغني من جوع.
وبعض الآباء الأميين أو الماديين يظنون أن تعلم أحكام الدين والانتماء إلى حلقات المساجد يتعارض مع الدراسة النظامية، وهم مخطئون في ذلك والواقع خير برهان ، ثم لو افترضنا أن ثمة تعارضا فعلا ، فلا شك أن تعلم العقيدة والأخلاق مقدم على أي علم آخر مهما عظم، لأن هذه العلوم لا تنفع صاحبه في الآخرة بل ولا في الدنيا إذا تعرى عن العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة.
خامسا : تقوية الروابط الاجتماعية
ومن أهم وظائف المسجد التربوية أنه يُعوِّد المسلمين على التزام الجماعة والارتباط بها، حيث يستشعر أهمية أن يكون مع إخوانه، ويرى استواءهم في العبادة يقفون في صف واحد من غير فارق اجتماعي، إذ تجد في المسجد الواحد والصف الواحد الرئيس والمرؤوس والغني والفقير والقوي والضعيف والصحيح والمريض.
وسائل التعليم في المسجد
-الخطبة
-الدروس العامة والمواعظ المبرمجة.
-المواعظ التي تختص بالمناسبات.
-حلقات تحفيظ القرآن وتجويده.
-الحلقات التكوينية في العلوم الشرعية.
-الحلقات التدعيمية في العلوم الكونية.
-المحاضرات والندوات.
-الدورات الفصلية العلمية والقرآنية.
-المكتبة.
-مكتبة الأشرطة والأقراص الليزرية.
-المجلات الحائطية.
المطلب الثالث : ضوابط في إدخال الصبيان إلى المسجد
بعض الناس يعتقد أن لا مكان للصبيان في المساجد وهم مخطئون في ذلك ، وقد اشتهر على ألسنتهم حديث:«جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ»([7])، وهو حديث ضعيف جدا لا تجوز نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصطحب أولاده إلى المسجد ولا يجوز الاعتماد عليه بحال، ولكن مع ذلك ينبغي أن نؤكد على مسؤولية الآباء في إعداد الأولاد لدخول المساجد وتأديبهم للحفاظ على حرمة المسجد ونظافته. ولذلك نُذكِّر ببعض الضوابط التي تقترن باصطحاب الأولاد على المسجد أو إرسالهم إليه.
أولا : تعظيم المسجد في نفوس الصغار
إنه ينبغي أن يلمس الطفل تعظيم المسجد في بيته ومحيطه، وإنه -ولا شك- قبل أن يدخل المسجد يسمع الآذان فينبغي تحديثه عن معنى هذا النداء وعن المكان الذي يصدر منه وعن حرمته وعظمة العبادة التي تؤدى فيه، وكذلك لا بد من تشويقه إلى المسجد بالأوصاف الجميلة التي تجعل قبله يتعلق به ويعظمه وإن لم يره، من طرق تعظيم المسجد أن يجعل من الجوائز التي يجازى بها الولد الصغير فيقال له إذا قمت بكذا وكذا سيأخذك والدك إلى المسجد لأداء الصلاة أو لترى صلاة الناس، وكما ينبغي أن يعظم المسجد والصلاة في نفس الطفل لا بد أن يعظم في نفسه أيضا الإمام والمؤذن.
ثانيا : التأديب قبل الإتيان به
ولا بد من تعليم الأولاد آداب المسجد قبل الإتيان بهم، كلزوم الصمت وعدم كثرة الحركة فيه، والسكون في مكان ثابت أثناء صلاة المؤمنين إذا لم يعقل بعد الصلاة، ومن علم مِن وَلده أنَّه يرفع صوته ويشوش على المؤمنين أثناء الصلاة فينبغي أن يتركه في البيت، لأن دفع المفاسد أولى من جلب المصالح، وقد سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن رجل يأتي بالصبي إلى المسجد أيستحب ذلك؟ قال:« إن كان قد بلغ موضع الأدب وعرف ذلك ولا يعبث فلا أرى بأسا، وإن كان صغيرا لا يقر فيه ويعبث فلا أحب ذلك»([8]). قال شيخ الإسلام ابن تيمية:« يصان المسجد عما يؤذيه ويؤذى المصلين فيه حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه، وكذلك توسيخهم لحصره ونحو ذلك، لا سيما إن كان وقت الصلاة فإن ذلك من عظيم المنكرات»([9]) .
ثالثا : الإحسان في اللباس والاحتياط للنجاسة
ومن ضوابط إحضار الأولاد الصغار إلى المساجد: إحسان لباسهم حيث لا يكون فيه كشف للعورة سواء كانوا ذكورا أو إناثا، ولا يكون فيه شيء من المخالفات الشرعية كالصور والأعلام وغيرها، ويدخل في معنى هذا تجنب إحضار الدمى واللعب لما في ذلك من امتهان لبيت الله تعالى ويدخل فيه الاحتياط لأمر النجاسة حفاظا على نظافة المسجد.
رابعا : عدم قطع الصفوف
ومما ينبغي أن يعلم أن الصبي لا يوضع في الصف إذا لم يعقل معنى الصلاة والوضوء، لأن ذلك يعتبر قطعا للصف، وقد يخرج منه ليلعب ويعبث ثم يعود وفي ذلك شغل للمصلين ونقص لخشوعهم، والأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أحضر أولاده إلى المسجد قبل عقل الصلاة تدل على هذا فإنه صلى الله عليه وسلم لم يدخلهم في الصف.
والأولاد الذين يجب على الآباء الإتيان بهم إلى المسجد وقت الصلاة هم من بلغ سن السابعة فصاعدا، وكثير من الناس يعكس القضية يأتي بالصبي إذا كان صغيرا قبل السابعة، ثم إذا جاء وقت أمره بالصلاة تركه، وعمل مثل هذا لا فائدة فيه.
خاتمة : الحذر من تنفير الصغار
وإذا جاء الطفل إلى المسجد لا بد أن يعامل معاملة حسنة فلا ينهر ولا ينفر وإن أخطأ، وإذا أراد أحد أن يؤخره عن الصف الأول فلا بد أن يرفق ذلك بكلمة طيبة ولا يجرحه ولا يحرجه، وهنا تظهر مسؤولية الإمام وجميع المصلين في تربية الصغار، كل هذا حتى تبقى منزلة المسجد في نفسه عظيمة وكل من فيه قدوة حسنة له.
[1]/ رواه البخاري (516) ومسلم (543).
[2]/ رواه النسائي (1141).
[3]/ رواه البخاري (2704).
[4]/ رواه أبو داود (677).
[5]/ رواه البخاري (841) ومسلم (583) واللفظ له.
[6]/ رواه أبو داود (547) والنسائي (847).
[7]/ رواه ابن ماجة (750) وفيه متروكان ومجهول.
[8]/ المدونة (1/195).
[9]/ مجموع الفتاوى (22/204).