الأحد 10 جمادة الثاني 1431

رد خبر الواحد إذا خالف القطعي من القرآن

كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

   الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، أما بعد: فقد أدهشني ما رأيته في ملتقى أهل الحديث من انتقاد الشيخ ابن باديس في قضايا أخرى غير تلك التي سودتها تلك الجراحة الطائشة التي رددت عليها في كتابي الرد النفيس، ومن ذلك انتقاده في العبارة المذكورة في عنوان المقال التي حملت أكثر مما تحملته وفسرت بأن مراده رد خبر الواحد في الاعتقاد!!

 

رد خبر الواحد إذا خالف القطعي من القرآن

 

    قال ابن باديس رحمه الله في التفسير وهو الجزء الأول من الآثار (1/54):" محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن نور وبيان، في هذه الآية وصف محمد صلى الله عليه وسلم بأنه نور، ووصف القرآن بأنه مبين، وفي آيات أخرى وصف القرآن بأنه نور بقوله :( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) (التغابن: 8) ووصف الرسول بأنه مبين بقوله :( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44) وهذا ليبين لنا الله تعالى أن إظهار النبي صلى الله عليه وسلم وبيانه وإظهار القرآن وبيانه واحد، ولقد صدقت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:"كان خلقه القرآن " (استفادة ) نستفيد من هذا أولا : أن السنة النبوية والقرآن ولهذا يُردُّ خبرُ الواحد إذا خالف القطعيَّ من القرآن وثانيا : أن فقه القرآن يتوقف على فقه حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وفقه حياته صلى الله عليه وسلم يتوقف على فقه القرآن وفقه الإسلام يتوقف على فقههما".

شرح العبارة

1-فقوله : "إن السنة النبوية والقرآن لا يتعارضان " تأصيل عظيم لقاعدة من قواعد علم الأصول المهمة وهي أن التعارض ليس من الشرع ، فالسنة النبوية الثابتة المحكمة لا يمكن أن تتعارض مع القرآن فهما متكاملان لأن مصدر الشرع واحد وهو الله تعالى والحق واحد لا يمكن أن يتعدد وأماراته لا تتعارض، وقد نص العلماء أيضا أن السنة النبوية الثابتة والإجماع الصحيح لا يتعارضان أبدا بناء على هذا الأصل .

وهذا خلافا للواقفة من الأشعرية الذين يقولون بتكافؤ الأدلة في الواقع لا في نظر المجتهد، فيجيزون أن يكون التعارض من الشرع ، ويذهبون إلى عدم الترجيح وتصويب المجتهدين وغير ذلك من الضلالات.

2-وقوله :" ولهذا يُردُّ خبرُ الواحد إذا خالف القطعيَّ من القرآن" رد خبر الواحد إذا عارض النص القطعي من القرآن قاعدة صحيحة لا غبار عليها، ويلزم من يخالف في هذا أن يرد نص القرآن القطعي ولا قائل بهذا، ولا يقال إن ذلك لا يلزم بإمكان الجمع بينهما لأنا نقول لا تعارض ولا ترجيح في حال إمكان الجمع .

ويدلنا على هذا الترجيح الذي هو من قطعيات علم الأصول ترتيب الأدلة بحسب القطعية والظنية قال الشافعي في الرسالة (599):" نحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها التي لا اختلاف فيها ، فنقول لهذا حكمنا بالحق في الظاهر والباطن. ونحكم بالسنة قد رويت من طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها ، فنقول حكمنا بالحق في الظاهر لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث". ولا تعارض بين القطعي والظني فيقدم القرآن والسنة المتواترة على خبر الواحد الذي ظاهره الصحة، ولا خلاف في هذا ، وإن كثيرا من الناس اليوم يتقبل أن يقال له يرجح حديث على حديث من حيث السند مع أنهما ظنيان ولا يقبل أن يقال له يرجح القرآن على خبر الواحد مع أن القرآن قطعي فلا أدري لماذا؟؟ بل ربما يرجحون حديثا مختلفا في صحته على أحاديث كثيرة في الصحيحين كما هو الحال في المسألة الفقهية الشهيرة (صيام يوم السبت).

وقد نص أكثر الأصوليين على تقديم الإجماع القطعي على خبر الواحد الظني أيضا، وقال الشافعي رحمه الله كما في الآداب لابن أبي حاتم (232):" والإجماع أكبر من الخبر المنفرد".

ولما تحدث الأصوليون عن تعارض خبر الواحد مع عمل أهل المدينة، قال كثير منهم-وهو الصحيح- إذا كان العمل متصلا فيقدم على خبر الواحد لأنه نقل متواتر. ويكون الخبر المرجوح في هذه الأحوال إما منسوخا وإما غلطا لكن لم يظهر عند من يرده دليل النسخ أو وجه القدح في إسناده.

ومما هو معلوم أن المحدثين يعتبرون مخالفة القرآن والسنة المتواترة وغيرها من الأخبار المتفق على صحتها في نقد الروايات والكلام في الرواة (انظر الرسالة للشافعي (399) الأنوار الكاشفة للمعلمي (6-7و189)ومقدمة الفوائد المجموعة). بل هم يعتبرون إجماع الصحابة والعمل في نقدها، وهذا أمر لا غبار عليه، قال ابن رجب في شرح العلل(236):" ومن جملة الغرائب المنكرة: ما هو شاذ المتن كالأحاديث التي صحت الأحاديث بخلافها أو أجمعت أئمة العلماء على القول بغيرها". والأمثلة على هذا كثيرة أذكر منها واحدا لا إشكال في رده ولا شبهة، وهو حديث عمار في المسح إلى المناكب والآباط في التيمم، إذ من أسانيده ما ظاهره الصحة. قال ابن رجب:" هذا حديث منكر لم يزل العلماء ينكرونه وقد أنكره الزهري وقال: (هو لا يعتبر به الناس)، وعن ابن عيينة أنه امتنع أن يحدث به وقال: (ليس عليه العمل)". انظر فتح الباري لابن رجب (2/252). ومن الأمثلة أيضا رد البخاري وابن المديني لحديث : "خلق الله التربة يوم السبت ..الحديث" الذي فيه بيان الخلق في سبعة أيام، لمعارضته للقرآن الذي ينص على أن الخلق كان في ستة أيام –ومسلم لم يلتفت لذلك فصححه-.

    وأما المسألة المترجمة في كتب الأصول بحجية خبر الواحد في القطعيات فهي مسألة أخرى غير مسألة معارضته للقرآن، ومقصود أصحاب هذه الترجمة البحث في حجية خبر الواحد في العقائد لأنهم جعلوا العقائد قطعية ومسائل الفقه ظنية، ومذهب أهل السنة قاطبة حجيتها خلاف للمعتزلة ومن وافقهم، فهم يعبرون عن العقائد بالقطعيات وبالمعقولات أيضا، لأن القطع عندهم لا ينال إلا بالدليل العقلي، أما القرآن والسنة فلا يدلان إلا على الظن كما قرره غير واحد من المتأخرين، فمنهم من يقول لا يحتج به في العقائد مطلقا كما هو شأن المعتزلة ، ومنهم من يقدم المعقول القطعي عنده على خبر الواحد الظني كما هو شأن متأخري الأشاعرة.

    وكلام ابن باديس لا علاقة له بمسألة مجال الاحتجاج بخبر الواحد، وإنما في تقرير تقديم القرآن القطعي على الخبر الظني، وثمة فرق شاسع بين من يقدم عقله على الخبر ومن يقدم كلام رب العالمين المفيد لليقين على خبر يحتمل الصواب والخطأ، وموضوع حجية خبر الواحد في الاعتقاد قد بيناه مفصلا في الفصل الأول من الباب الأول من الرد النفيس فليراجعه من شاء.

استطراد

    وعلى كل قد سئمنا من الرد على هذه الطائفة الحاقدة على العلماء وطلبة العلم في هذه البلاد، التي تبذل كل جهدها من أجل الطعن والتجريح والتشكيك فيمن يمثل الدين فيها (ولا أقول السلفية)، ومما يدل على زعمي من رميهم لابن باديس بالبدع والأقوال المتناقصة كمن يرميه بالتعصب المذهبي والاعتداد بالمذاهب الضالة في آن واحد، وهذا النابت المتستر (المتسمي بعبد الحق) يريد أن يفهمنا أن ابن باديس كان مرجئا لأنه يقول إن المعاصي ليست كفرا وإنما هي كفر دون كفر، ولأنه قال بأن أصل الإيمان في القلب، وهذه عقيدة أهل السنة خلافا للخوارج الجدد المدعين للسلفية بل والمحتكرين لها. وبعد أن فرغ من رميه بعقيدة المرجئة والجهمية ظلما وعدوانا- وهو ليس أهلا أن يفهم كلام العلماء في هذه المسائل كما يظهر من كتاباته-، بعد ذلك رمى الشيخ بتكفير صاحب الكبيرة!!! وهو قد تفحص مجالس التذكير ولا شك أنه وجد فيه قول ابن باديس (1/305):" وأما القاتل والزاني إذا كانا من أهل الإيمان فإنهما يخرجان بعد شديد العذاب بما معهما من الإيمان لأحاديث صحيحة منها ما روى الشيخان البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه :" يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ذرة". ولا شك أنه قرأ كتابه العقائد الإسلامية على صغر حجمه، فهذا الناقد الماكر يترك الواضح البين المحكم ويذهب إلى المتشابه كما هو شأن أهل الأهواء.

   إن هذا الذي يريد أن يغرر بالناس بأسلوبه الذي يتكلف تأديبه حتى يروج على المشرفين على المواقع السنية ولا تحذف سمومه من صفحات المنتديات، هو لا شك من هذه الطائفة المندسة في صفوف السلفيين وأكثر عناصرها في بلادنا لا تعرف هويتهم، أو تعرف لكن بماض سيء يثير الشكوك (والظنون الراجحة)، هدفهم زرع الفرقة في الصف السلفي –وقد كان لهم ذلك- وكذا ضرب هذه الدعوة ببترها عن أصولها الجزائرية القديمة والمعاصرة ليسهل على محاربيها دفعها بأنها دعوة دخيلة على مجتمعنا مفرقة لشملنا، وأنها هي سبب الإرهاب الذي ضرب البلاد، إلى غير ذلك من صنوف الإشاعات الإعلامية التي نعاني منها ونواجهها في هذه الأيام، فنسأل الله تعالى أن يوفق المشرفين على المواقع السنية إلى حذف ترهات هذا المتطاول التي ينال فيها من علماء الجزائر كما أنهم يمنعون –مشكورين- أي طعن في غيرهم من العلماء، ولا شك أنه لديهم القدرة على تمييز ما هو بحث علمي ومناقشة هادفة وما هو من آثار داء التجريح والتعالم على أعلام الأمة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

(نشر في ملتقى أهل الحديث وهذب بما يقتضيه الحال)

 

تم قراءة المقال 8324 مرة