الأحد 8 ربيع الأول 1431

هل آتاك نبأ الحاج عمر؟ (ليون روش)

كتبه 
قيم الموضوع
(5 أصوات)

   إنه الحاج عمر وما أدراك من هو الحاج عمر؟ إنه الموسيو "ليون روش" صاحب كتاب "اثنان وثلاثون سنة في الإسلام" الصادر عام 1884م ، إنه الجاسوس البارع الذي دخل الجزائر سنة 1932م، وأرسله المارشال "بوجو" ليكون عينا له عند الأمير عبد القادر، إنه الرجل الذي ضرب الجهاد الإسلامي ضد المستعمر في الصميم، وكان من أعظم أسباب عدم نجاحه، إنه المنافق الذي ادعى الإسلام واندس في صفوف المسلمين، وصار بسرعة فائقة من المقربين من القائد الأعلى للقوات الإسلامية المدافعة عن حمى الجزائر الأمير عبد القادر.

هل آتاك نبأ الحاج عمر؟ (ليون روش)

    وهنا قد يقال كيف كان لهذا الرجل اللعين أن يبطل الجهاد وأن يغلب أمة من الناس ؟ نعم لقد تمكن من ذلك بعد أن خالط المسلمين وعرف دخائلهم والعوامل المحركة لهمهم والتي تدفعهم إلى جهاد المستعمر، لقد لاحظ مدى تأثير الفتوى من العالم أو ممن يحسبه الناس عالما في جماهير المسلمين، ولقد اطلع على الفتاوى التي كانت تتقوى بها المقاومة الإسلامية ضد المستعمر، ومنها فتاوى وجوب الهجرة من البلاد التي يحكمها الكفار الصليبيون أو أرض الحرب كما هو المصطلح الفقهي ، كما اطلع على خلاف بعض المنتسبين إلى العلم والدين ممن استسلم لفرنسا، أو ممن عجز عن الهجرة وعلى المراسلات التي كانت بين العلماء في هذا الشأن.

    وعند استئناف الحرب بين المجاهدين والفرنسيين عام 1839م، وجد "ليون روش" الفرصة للهروب من حاشية الأمير وأن يعود إلى صفوف المارشال "بوجو"، ليكشف له عن عورات المسلمين وعن أسرارهم ، ومن ذلك أن المسلمين كانوا يعتبرون الأرض الواقعة تحت الإدارة الفرنسية دار حرب يجب الخروج منها، وأن ذلك هو أساس حركة الجهاد عندهم، وعلة هذا واضحة معقولة إذ أن تنظيم الجهاد وإعداد عدته لا يكون إلا في أرض محررة، وإن كان للفتوى عند الفقهاء توجيهات أخرى منها عدم الرضوخ إلى قوانين الكفار وحكومتهم، وعدم إمكانية إقامة الشعائر الدينية في ظل حكمهم. وعندها وجد الفرنسيون التفسير لتلك الهجرات الواسعة التي لاحظوها في كل مدينة يستولون عليها، وقد ذكر المؤرخون أن ثلثي سكان الجزائر العاصمة غادروها بعد الاحتلال، وأن غالب من بقي هم من عجز عن الارتحال، ولمواجهة هذا الحكم الشرعي ذي العلل المتعددة صاغ الفرنسيون فتوى شيطانية ساعدهم عليها شيخ الطريقة التيجانية محمد الصغير، ومقدم الزاوية الطيبية المغربية في الجزائر ، ومفاد هذه الفتوى أن الجزائر لا تعتبر دار حرب ولا تستوجب هجرة ولا جهادا، ما دام المسلمون قد بذلوا الجهد في الدفاع عنها وعن الإسلام فعجزوا عن طرد الكفار منها، ثم إن هذا الكافر نفسه قد ترك لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية، ومنه فعليهم أن يرضوا بحكم النصارى عليهم، وحمل "ليون روش" هذه الفتوى بنفسه سنة 1841م إلى بعض علماء المسلمين ليوقعوا عليها، وليظفر بثقة من يسأله رافقه بعض الطرقية وسمى نفسه الحاج عمر بن عبد الله الجزائري وزعم أنه مقدم في الطريقة التيجانية، ولقد كان له ما أراد، فكان أول من وقع عليها مفتي الجامع الكبير بالقيروان، ثم بعض شيوخ الإسكندرية، ثم بعض شيوخ مكة الذين اجتمعوا في الطائف تحت رعاية شريف مكة، والذي أخبر بموافقة هؤلاء الشيوخ وأرخه هو "ليون روش" في كتابه المذكور،.

    والذي يؤكد ظفره ببعض التأييد على الأقل من شيوخ الطرق التي كانت مساندة لفرنسا علنا أو من بعض شيوخ المشرق المغفلين أنه بعد رجوعه سنة 1842م من رحلته إلى الشرق ونشر خبر الفتوى كتب الأمير عبد القادر رسالة عنوانها "حسام الدين لقطع شبه المرتدين" ونشرها سنة 1843م ، ولقد أجاب إجابة صريحة بوجوب الهجرة من كل جزء يستولي عليه الكفار والخروج إلى المناطق التي كانت تحت سلطته أو غيرها، وقد عزز مناقشته مع من وصفهم بالمرتدين!! بأقوال المفسرين في قوله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً)) [النساء:97] وفتاوى بعض المالكية كابن الحاج والمغيلي والونشريسي، كما رد أيضا على جمله من الشبه الواهية التي تمسك بها المخالفون؛ لإجهاض الجهاد وإعلان الاستسلام مع وجود القدرة على المواجهة. أظن أنه بعد هذا الشرح الموجز قد اتضح لماذا قلت: إنه الرجل الذي ضرب الجهاد الإسلامي في الصميم، ولست مبتدءا لهذا الوصف فقد سبق إلى وصفه بذلك بلديه "ديبون وكوبولاني" في كتابه "الطرق الدينية في الجزائر" الصادر عام 1897 حيث قال في الصفحة 37 عن "ليون روش" :" أنه قدم بهذه الفتوى أكبر خدمة للهيمنة الفرنسية على الجزائر"، وللمسلم في هذا العصر مع هذا المشهد التاريخي عدة عبر يعتبرها:

-وفي مقدمتها أنه لا ينبغي على القادة والموجهين أن يقربوا من هم حدثاء عهد بإسلام أو بالتزام؛ فإن أكثر الشر والفتن إنما يأتي من جانبهم إذا ما تهوروا أو انقلبوا أو كانوا مدسوسين.

-وكذلك ينبغي أن ننظر إلى المسائل الشرعية التي يتكلم بها العلماء وقد تكون غريبة عنا نظرة المتعلم المتفهم، وأن لا نحكم عاطفتنا وانفعالاتنا الحماسية الآنية، إذ كثير من الناس قد يعترض على بعض الفتاوى الموجبة للهجرة من أرض لا شبهة في كونها أرض حرب –كالأراضي التي يسيطر عليها اليهود سيطرة كاملة – وليته كان اعتراضا علميا مؤدبا، ولكنها اعتراضات يجمع فيها أهلها بين الجهل والظلم، فيتهمون العالم المفتي ويقولون أيعقل أن يترك المسلمون أرضهم للمستعمر غنيمة باردة يتمتعون بها!! هكذا يعترض بكلام يقدر عليه كل أحد على أحكام شرعية مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وسبق إلى مثلها علماء أجلاء ومجاهدون عظماء، آه لو سمعهم الأمير! لربما أخرج عليهم حسامه من جديد، ولكن نحن في زمن أصبح كل أحد يتكلم في دين الله تعالى، فإلى الله المشتكى من الحال الذي آلت إليه الأمة.

-ومن العبر التي ينبغي أن يعتبرها القارئ لخبر هذا الرجل أنه ليس كل من سماه قومه وحاشيته بالعالم كان ذلك، وخاصة هؤلاء الطرقيين الدراويش الذين كانوا يعمرون الزوايا والقباب، فإن هؤلاء هم داء الأمة العضال الذي ينبغي السعي إلى استئصاله قبل غيره من الأدواء، وهم من عنى المفتي ابن العنابي رحمه الله صاحب كتاب "السعي المحمود في نظام الجنود" بقوله:" إنهم المشتغلون بتكوير وتكبير العمائم، وإطالة أكمام الجبائب، وصبغ اللحى والشوارب، وتكثير حبات السبح ( جمع السبحة ) والتقرب من كل ذوي سلطان".

-ومن العبر التي ينبغي أن نعتبرها أنه إذا كان الأعداء قد حاربوا المسلمين بليون روش في ذلك العصر، - وقد قيل أنه تلقى تكوينا مكثفا في باريس قبل مجيئه إلى الجزائر سنة 1832م على يد المستشرقين حيث تعلم اللغة العربية وقواعد الإسلام-، فكم يكون في هذه الأمة من ليون روش يا ترى في هذه الأيام ؟ وإذا كان الأمير عبد القادر الزعيم الحربي المحنك قد اغتر بظاهر حال هذا الرجل وسيرته؛ فقربه وأدناه رغم وجود من نصحه في أمره ، فكيف يكون حال القادة والموجهين اليوم؟ لست أقنط الناس بهذه اللفتة ولست أريد إفزاعهم، وإنما رميت إلى تنبيههم إلى أن حسن الظن الذي نحن مأمورون به لا يؤهل كل أحد إلى أي منزلة، كما أن له حدا يتوقف عنده، وعلى كل حال لسنا مطالبين بكشف المنافقين المندسين، فإنه أمر لم يقم به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الالتزام بالشرع – الذي لا يكون إلا بفقهه- هو الذي يقينا من شرهم وكيدهم إن شاء الله تعالى.

     وفي الختام أنقل للقارئ الكريم فقرات مترجمة من كتاب "الحاج عمر التجاني" (اثنان وثلاثون سنة في الإسلام ) تحمل في طياتها دلالات وفوائد منها ما سبق ذكره ومنها ما لم يذكر، يقول عدو الله : "اعتنقت دين الإسلام زمنا طويلا لأدخل على الأمير عبد القادر دسيسة من قبل فرنسا، وقد نجحت في الحيلة ، فوثق بي الأمير وثوقا تاما واتخذني سكرتيرا له …فوجدت هذا الدين الذي يعيبه الكثيرون منا أفضل دين عرفته ، فهو دين إنساني طبيعي اقتصادي أدبي …ثم بحثت عن تأثير هذا الدين في نفوس المسلمين فوجدته قد ملأها شجاعة وشهامة ووداعة وجمالا وكرما ، بل وجدت هذه النفوس على مثال ما يحلم به الفلاسفة من نفوس الخير …ولقد وجدت في الإسلام حل المسألتين الاجتماعيتين اللتين تشغلان العالم، الأولى في قول القرآن:" إنما المؤمنون إخوة" فهذا أجمل مبادئ الاجتماع، والثانية في فرض الزكاة على كل ذي مال وتخويل الفقراء حق أخذها ولو امتنع الأغنياء عن دفعها وهذا دواء الفوضوية …إنه دين المحامد والفضائل، ولو وجد رجالا يعلمونه الناس حق التعليم ويفسرونه تمام التفسير لكان المسلمون اليوم أرقى العالمين وأسبقهم في كل الميادين ، ولكن وجد بينهم شيوخ يحرفون كلمه ويمسخون جماله ويدخلون عليه ما ليس منه ، وإني تمكنت من استغواء بعض هؤلاء الشيوخ في القيروان والإسكندرية ومكة، فكتبوا إلى المسلمين في الجزائر يفتونهم بوجوب الطاعة للفرنسيين وبأن لا ينزعوا إلى الثورة، وبأن فرنسا خير دولة أخرجت للناس ومنهم من أفتى بأن فرنسا دولة إسلامية أكثر من الدولة العثمانية، وكل ذلك لم يكلفني إلا بعض الآنية الذهبية".

تم قراءة المقال 6532 مرة